أنهار الغبار.. الشرق الأوسط والمياه

بانوراما 2019/10/14
...

كون هالينان 

ترجمة: انيس الصفار   

يذكر في الآثار أن الملك إيناناتوم حاكم لكش قتل 60 جندياً من مدينة أوما، إذ كانت الحرب قد نشبت بين هاتين الدولتين القديمتين قبل ما يقارب 4500 عام في موقع لا يبعد كثيراً عن نقطة التقاء النهرين العظيمين دجلة والفرات فيما صار يسمى اليوم دولة العراق. وعند السؤال عن السبب الذي أدى الى ذلك النزاع، أتت الإجابة بأنها.. المياه!.

لقد مرت اكثر من أربعة آلاف عام منذ أن التحم الجيشان بسبب محاولة إحدى الدولتين الاستيلاء على مياه الدولة الاخرى. وربما تكون وسائل الحرب قد تغيرت بعد كل هذا الزمن ولكن المشكلة باقية كما هي ، أن الطرف الذي يتحكم بالنهر يتحكم بالأرض أيضاً. بيد أن النهرين اليوم سائران الى الجفاف، جانب من السبب يكمن في الاسراف والهدر، أما جانبه الآخر فمردّه التغيرات المناخية التي تدك المنطقة وتعاقبها بمواسم جفاف تدوم سنيناً طويلة.
المشكلات قائمة بخصوص نهري دجلة والفرات بين العراق وسوريا من جهة وتركيا من جهة أخرى، وكذلك علاقات مصر بالسودان واثيوبيا تشوبها التوترات بسبب نهر النيل، والاردن والفلسطينيون ايضا يتهمون اسرائيل باختلاس مياه النهر لسقي صحراء النقب الى جانب سطوها على معظم مياه المخزونات الجوفية الثلاثة الممتدة تحت اراضي الضفة الغربية المحتلة.
تظهر بيانات الاقمار الاصطناعية التي ترقب تغيرات المناخ أن حوض دجلة والفرات، الذي يحتضن تركيا وسوريا والعراق وغرب إيران، يفقد مياهه أسرع من أي مكان آخر في العالم، باستثناء شمال الهند.
مشكلة المياه في الشرق الأوسط ليست حالة فريدة، فجنوب آسيا، وشبه الجزيرة الهندية على وجه الخصوص، يعانيان من ضائقة المياه أيضا، واستراليا ومعظم اجزاء افريقيا الجنوبية تعانيان ايضاً من موجات جفاف لا ترحم. حتى أوروبا تقارع اليوم ضغوطاً بسبب تدني مناسيب المياه في بعض أنهارها الى حدود باتت تعيق حركة النقل النهري.
 
مشكلة إسرائيل
بيد أن الضربات الثقيلة هوت على الشرق الأوسط بشكل محدد، حيث يستقرأ من "مؤشر ضائقة المياه" أن من أصل 37 بلدا على مستوى العالم تعاني "شحة قصوى" في المياه تقع 15 منها ضمن منطقة الشرق الأوسط، وعلى رأس القائمة تظهر دول مثل قطر والكويت والبحرين والسعودية.
بالنسبة للعراق وسوريا تتمثل المشكلة بتركيا وهوسها بإنشاء السدود. فمنذ العام 1975 قلّصت السدود التركية كميات الماء المنحدرة الى سوريا بنسبة 40 بالمئة، والى العراق بنسبة 80 بالمئة، وتفيد بيانات اتحاد الجمعيات الفلاحية في العراق أن نحو 50 بالمئة من الأراضي الزراعية هناك قد تنتهي بالحرمان الكامل من المياه، وهذا معناه تعطيل 124 مليون أيكر من الاراضي الزراعية عن الانتاج.
إيران وسوريا تقيمان السدود أيضاً، وهذه تؤدي بدورها الى خفض الجريان بالنسبة للانهار التي تمد دجلة والفرات بالماء فتتيح بذلك الفرصة لتغلغل مياه الخليج المالحة الى نهر شط العرب، وهو ملتقى النهرين التوأمين. هذه الملوحة دمّرت اراضي زراعية خصبة في الجنوب وقضت على معظم مزارع النخيل الغناء الواسعة التي اشتهر بها العراق.
قبل نصف قرن من الزمن انشأت اسرائيل ما يطلق عليه "القناة الوطنية لنقل المياه" وبذلك حولت مجرى الماء من بحر الجليل الذي يتلقى مياهه من نهر الأردن. أدى ذلك الى تحويل الجزء الجنوبي من نهر الأردن في الجليل الى جدول موحل تمنع اسرائيل الفلسطينيين من استخدامه. ثم أضافت السدود الأردنية والسورية التي انشئت على روافد الانهار ضغطا الى المشكلة إذ خفضت جريان نهر الاردن بنسبة 90 بالمئة.
بالاضافة الى ما سبق تشير تقارير البنك الدولي الى أن اسرائيل تستحوذ على نسبة 87 بالمئة من مياه الطبقات الجوفية في الضفة الغربية، وهذا لا يبقي للفلسطينيين سوى 13 بالمئة لا غير. كانت نتيجة ذلك حصول الفرد الاسرائيلي في الضفة الغربية على 240 لترا من الماء، وحصول المستوطنين الاسرائيليين على 60 لتراً اضافية أخرى، في حين لا يتبقى للفرد الفلسطيني سوى 75 لترا يومياً، مع ملاحظة أن المقدار الذي تحدده منظمة الصحة العالمية هو 100 لتر يومياً للفرد الواحد.
 
نهر النيل
يعد نهر النيل أطول أنهار العالم بطوله الذي يتجاوز 6730 كيلومتراً، وهو يمر أثناء جريانه بعشر دول افريقية. يمثل هذا النهر شريان الحياة بالنسبة لمصر، إذ يؤمن لها كلا من الماء والتربة الخصبة للزراعة، إلا أن تضافر عاملي الجفاف والسدود أدى الى تقليص كميات جريان النيل على مدى العقود العديدة الماضية.
تقيم اثيوبيا حالياً سداً عظيماً لتوليد الطاقة وتوفير مياه الري على نهر النيل الازرق الذي ينبع من بحيرة تانا الواقع وسط المرتفعات الاثيوبية. ومن التقاء نهري النيل الازرق والنيل الابيض (الذي ينبع من بحيرة فكتوريا شرق أوغندا) يتشكل نهر النيل بالقرب من مدينة الخرطوم عاصمة السودان. ومرت أوقات كانت العلاقات بين مصر واثيوبيا متسمة بالتوتر بسبب مشكلات المياه، ولكنها أخذت بالانفراج قليلاً حين اتفق الطرفان على إجراء محادثات للتقاسم.
بيد أن مشكلة المياه، أو بالاحرى مشكلة نقصها، ستبقى متطورة نحو الأسوأ بسبب تسارع التغيرات المناخية، وبالتالي فإن حل هذه المشكلات يتطلب أكثر من الجلوس لإبرام معاهدات ثنائية بشأن التقاسم، وهنا لا يكاد يكون هنالك اتفاق بخصوص كيفية التحرك الى أمام.
احدى الستراتيجيات المعول عليها هي الخصخصة. فمن خلال مؤسسة التمويل الدولي التابعة له كان البنك الدولي يحث على الخصخصة وحجته في ذلك هي أن رأس المال الخاص لديه القدرة على الارتقاء بالأنظمة وضمان النتائج. ولكن ثبت أن الخصخصة، من حيث الواقع العملي، تنتج نوعيات من المياه ادنى جودة وبأسعار مرتفعة عموماً، لذا أقدمت الشركات العملاقة متعددة الجنسيات، مثل سويز وفيوليا، على قطع الموارد المالية عن الشرق الأوسط والجزء الجنوبي من الكرة الارضية.
الماء اليوم آخذ بالتحول، وبصورة متزايدة، الى سلعة أما من خلال السيطرة على الموارد الطبيعية والتوزيع أو من خلال محاصرة السوق ودفعه باتجاه المياه المعبأة في قناني.
لبنان خير مثال على ما نقول. فقد عرف عن هذا البلد تاريخياً أنه يمتلك ما يكفيه من الموارد المائية، رغم هذا أضيف الى قائمة البلدان الثلاثة والثلاثين التي ستواجه نقصاً حاداً في المياه بحلول العام 2040.
 
حلول مكلفة
 جزء من الازمة الحالية منشأها محلي، حيث ينشط ما يقارب 60 ألف بئر غير مرخصة لسحب المياه من الطبقة الجوفية التي يتربع فوقها هذا البلد، ولم تتمكن السدود من حل مشكلة نقص المياه المزمنة، لا سيما بالنسبة لنحو 1,6 مليون انسان يمثلون سكان منطقة بيروت الكبرى. شيئاً فشيئاً تزايد عدد الذين يتحولون الى الاعتماد على موارد المياه الخاصة، لا سيما المياه المعبأة.
هنا أخذت الشركات متعددة الجنسيات، مثل شركة نستلة، تسحب الماء من مناطق كاليفورنيا ومشيغان الأميركيتين لتبيعها الى لبنان، وتهيمن شركة نستلة اليوم على نحو 35 بالمئة من المياه المعبأة في لبنان. المياه المعبأة ليست أغلى سعراً فقط واكثر ردائة نوعياً بمرات من مصادر المياه المحلية، بل ان البلاستيك الذي تتطلبه يفاقم مشكلة التلوث المتنامية.
ثمة حلول لهذه المشكلة، ولكنها تقتضي مستوى معيناً من التعاون والاستثمار لا نجدهما اليوم إلا لدى قلة قليلة من البلدان. بعض البلدان لا تملك الاموال اللازمة لإصلاح البنى التحتية المائية أو الارتقاء بها، وبذلك تهدر كميات هائلة من المياه عن طريق التسرب من الانابيب. أما السدود فإنها تضعف قوة جريان مياه الانهار، وهذا يؤدي الى ظهور مشكلات التلوث الملحي عند مصبات الانهار، كما هي الحال مع العراق ومصر. بيد أن السدود بدورها تتعرض للانطمار في النهاية جراء تراكم الترسبات.
بالنسبة للآبار، سواء ما كان منها شرعياً أم غير شرعي، فإنها تستنزف المياه الجوفية سريعاً، وهذا يجبر المزارعين والمدن على النزول الى أعماق أكبر عاماً بعد عام. في كثير من الاحيان تأخذ هذه الابار العميقة بسحب مياه الرشح الملوثة بالملوثات وهذا يجعل استخدامها للشرب او الزراعة أمراً مستحيلاً.
ثمة حلول هنا أيضاً. فقد حققت ولاية كاليفورنيا نجاحاً مشهوداً من خلال إعادة ملء الطبقات الجوفية الهائلة القابعة تحت منطقة الوادي الأوسط الخصب بالمياه عن طريق إنشاء بحيرات صغيرة وإعادة تعبئة الأحواض خلال مواسم المطر ثم ترك المياه بعد ذلك تتغلغل عائدة الى أعماق الارض. الري بالتنقيط اسلوب فعال ايضاً من اجل خفض استخدام الماء ولكنه يتطلب استثمارات تتجاوز قدرة كثير من الدول، ناهيك عن صغار المزارعين.
ازالة الاملاح ستراتيجية ناجحة هي الأخرى، ولكنها باهظة التكاليف وتتطلب حرق كميات كبيرة من الوقود الهايدروكاربوني، وبذلك تضخ في الغلاف الجوي مزيداً من غاز ثاني أوكسيد الكاربون وهذا سيعجل بالتغير المناخي ويزيده تسارعاً.
كلما ازداد الشرق الاوسط جفافاً، وكلما واصلت أعداد السكان فيه تصاعدها، سينحدر الوضع نحو مزيد من السوء خلال العقود القادمة. 
 
خطوة على الطريق
ربما كان الشرق الاوسط يسير نحو الجفاف، ولكن الأمر كذلك ايضاً بالنسبة لكاليفورنيا ومعظم مناطق الجنوب الغربي من أميركا وجنوب افريقيا وانحاء من أميركا اللاتينية وحتى جنوب أوروبا بأكمله. وما دامت الأزمة عالمية الى هذه الدرجة فإن الستراتيجيات القائمة على اساس "أفقر جارك" ستنتهي بالبشرية كلها الى الفاقة في آخر المطاف. الحل الان منوط بالمنظمة الدولية الوحيدة القادرة على وجه هذا الكوكب، وهي الامم المتحدة. فخلال العام 1997 احتضنت الامم المتحدة مؤتمراً يتناول المجاري المائية الدولية، وقد افرز ذلك المؤتمر خطوات اجرائية بخصوص تقاسم المياه وحل الخلافات. بيد أن العديد من الدول الكبرى، مثل الصين وتركيا، عارضت تلك المعطيات وامتنعت دول أخرى عن الحضور، مثل الهند وباكستان. هذا المؤتمر كان طوعياً تماماً ولم يتضمن آليات تنفيذ مثل التحكيم الملزم.
المؤتمر المذكور مجرد بداية، ولكن مسألة ما اذا كانت الأمم المعنية ستتوحد معاً لمواجهة الازمة الواسعة التي يتعرض لها الكوكب سوف تبقى مفتوحة. من دون ذلك سوف تنضب المياه لدى عموم منطقة الشرق الأوسط الذي لن يكون وحده أمام ذلك الخطر. وبحلول العام 2030، كما تقول الأمم المتحدة، لن يكون بوسع أربعة اشخاص من بين كل عشرة أن يحصلوا على الماء.
لقد وقعت سابقة في الماضي البعيد فأنتجت حلاً.. سابقة عمرها 4500 عام على الأقل. إذ يضم متحف اللوفر لوحا عليه كتابة بالخط المسماري تستعرض بنود اتفاقية مائية وضعت نهاية للحرب بين أوما ولكش. وإن يكن اسلافنا القدماء قد توصلوا الى مثل هذه الاتفاقية فمن المنطقي عقلاً أننا قادرون على ذلك.. نحن ايضاً.           
عن موقع مجلة "كاونتر بانتش"