الانبهار .. آرثر رامبو مثلاً!

ثقافة 2018/11/16
...

عادل العامل
 
كي ينبهر الواحد منّا انبهاراً صادقاً، لا بدَّ له من حالةٍ أو حدّثٍ يبعث على الدهشة أو الاعجاب حقاً، وشخصيةٍ متّزنة واعية، ومعرفة وافية بطبيعة الحالة أو الحدث. 
وهذا الثلاثي ــ الحدث، والشخصية، والمعرفة ــ هو الذي يُقيِّم الانبهار ويحدّد ما إذا كان انبهاراً حقيقياً مشروعاً، وما إذا كان انبهاراً متسرّعاً أو سطحيّاً سرعان 
ما يزول.
فقد ينبهر الواحد منّا، على سبيل المثال، بشكل امرأةٍ تبدو رائعة الجمال، قبل أن يعرف أنّ ذلك الجمال مجرّد قناع من ألوانٍ وخطوط وإجراءات أخرى!، وقد تدهشه الشعبيّة الهائلة لمطربٍ في حفل غنائي، وهو لا يعلم أن صراخ بعض الحضور وانفعالاتهم و"إغماءات" عدد من فتياته المنبهرات مجرّد حركات مدفوعة الأجر!، وقد يفاجَأ قارئٌ بقصيدة يكتنفها الغموض الباهر، وهو لا يعلم أنّها في حقيقتها مجرد كلام، أيّ كلام افتعله الشاعر، على غرار الشعر المترجم، أو تقليداً لما هو شائع اليوم .. 
إلّا ما ندر!وهكذا، فإنّ الانبهار الحق يجب أن يكون منطلقاً من أساسٍ متين تتوفر فيه استثنائية الحالة، وأهليّة المنبهر، وجدارة ما هو مُبهر من أجل الانبهار به.
 
مؤهلات الشخصية
فعندما أنبهر، مثلاً، بشعر رامبو، ينبغي لي أن أكون مطلعاً على هذا الشعر في لغته الفرنسيّة، ومؤَهّلاً للحكم عليه، وعارفاً بثقافة الشاعر وأحواله، كي يكون لانبهاري ما يبرّره أو ينطلق منه على أساسٍ سليم. ولن تكون لهذا الانبهار أيّة مصداقية بالتأكيد وأنا أجهل لغة رامبو الأصليّة، ولا أفهم ما يريد التعبير عنه، ولا أدري أنه كان في السابعة عشرة من عمره حين خربش كتاباته تلك، وهو بذلك من دون ثقافة أدبيّة عميقة أو غير عميقة، حين حصل "إبداعه" الشعري .. ذلك "الإعجاز" الذي راح رامبو نفسه يرفض التحدث عنه فيما بعد، وهو في الثلاثينيات من عمره، معتبراً إيّاه "سخيفاً، مضحكاً، ومثيراً للاشمئزاز"، كما جاء في مقال لدانييل منديلسون (1).
ولا أدري ما الذي يقوله أعزائي المنبهرون بـذلك "الإبداع" حين يعلمون برأي رامبو هذا في شعره، أي حين يقول عنه إنّه سخيف، مضحك ومثير للاشمئزاز!، وماذا يفعل مئات الكتّاب، عرباً كانوا أم أوروبيين، بمقالاتهم ومؤلفاتهم التي كتبوها بكل اقتناعٍ وجدّيةٍ وعناء عن هذا "الإبداع" الذي تبرّأ منه صاحبه فيما بعد وهو يعمل متشرّداً متصعلكاً في تجارة أي شيء بين أفريقيا وعدن في ثمانينيات القرن التاسع عشر!. 
 
أسس الانبهار
إنّ للانبهار أهميته الكبيرة على المستويين الشخصي والعام. إذ سيترتّب عليه - ولا بدّ َ- موقفٌ أو ردُّ فعلٍ سيكون له ما بعده (وهو في حالة رامبو هذا الكم الكبير من النتاج العالمي المكتوب عن إبداعٍ لا يعدّه صاحبه هكذا، وهو الأعرف من غيره بحقيقة إبداعه والحكم عليه بالتالي)، أمّا على المستوى العام، فسوف يُضلَّل الناس بفكرة قامت على انطباعٍ شخصي لمؤلفٍ أو قارئٍ منبهر بأمرٍ ما ليس فيه ما يدعو إلى الانبهار في حقيقته!
وينطبق الشيء نفسه على الحالات الآنفة الذكر أعلاه، وغيرها من الأمور التي تُبهر الناس هنا وهناك في حياتهم اليوميّة، والتي كثيراً ما ينتهي ذلك بشعورٍ من الخيبة، أو ينقضي من دون أثرٍ يُذكر. واهتمامنا هنا بطبيعة الحال لا ينصب على هذا النوع السطحي من الانبهار، وإنّما على تلك الانبهارات التي لها ما بعدها في حياة الناس.
ويبدو أنّ علينا من ثمَّ أنّ نتأنى في انبهاراتنا لتكون قائمةً على أساسٍ سليم، وليس على أساس متعجّل سرعان ما يتبدّد تحت شمس حقيقة ما يُبهرنا في حينه، كما هي الحال مع "المبهرات" المذكورة أعلاه! رغم أن تأنّينا في الانبهار أو تأجيله حتى تتضح حقيقة المُبهر ربما ستُفقدنا الرغبة في الانبهار، الذي يتطلّب السرعة في الاستجابة، وستصبح حالنا شبيهةً بما حصل مع عالم البلاغة والنحو المعروف في العصر العباسي، أبي العبّاس المبرِّد.
فقد ذكر ابن الجوزي (2) أن رجلاً دعا المبَرِّد بالبصرة مع جماعةٍ إلى مجلسٍ له، فغنَّتْ جاريةُ من وراء الستارة وأنشأتْ تقول: 
 
[ وقالوا لها: هذا حبيبُكِ مُعْرِضٌ،
فقالت: ألّا إعراضَهُ أيسرُ الخطْبِ 
 فما هيَ إلاّ نظـــــــرةُ بتبسّــــــمٍ، 
فتَصْطَكُّ رجلاهُ ويسقطُ للجنبِ! ]
 
فطرِبَ كلّ من حضرَ إلّا المبَرِّد، فقال له صاحب المجلس: كنتَ أحَقّ بالطَرَبِ؛ فقالت الجارية: دعْهُ يا مولاي، فإنّه سمعني أقول: هذا حبيبكِ معرِضٌ، فظنَّني لحِنْتُ (3)، ولم يعلم أنَّ ابنَ مسعود قرأ " وهذا بعلي شيخٌ "(4)، قال: فطرِبَ المبرِّد من قولها، عندئذٍ، إلى أن شقَّ ثوبَه!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عنوانهRebel Rebel Arthur Rimbaud’s brief career)  )/ مجلة The New Yorker 29/8/2011
(2) أخبار الاذكياء/ ابن الجوزي 290
(3) أي أخطأت’في النحو، فقد كان عليها القول: مُعرضاً.
(4) سورة هود/ الآية 72