امينة حاجي.. المرأة التي انقذت الصوماليات

بانوراما 2019/10/21
...

 
آن كيدسوم
ترجمة: بهاء سلمان
 
عندما تحوّلت مقاديشو الى ساحة معركة للميليشيات القبلية المتنافسة مطلع العام 1991، كانت أمينة حاجي منهمكة بشكل كبير بنزاع شخصي من نوع آخر تماما. وبعد هروبها مع اسرتها من منزلها المريح وسط العاصمة الصومالية مقاديشو، وجدت سيدة الأعمال نفسها تحت شجرة في منطقة {بالساد} ، التي تبعد 36 كيلومترا عن العاصمة، وما زاد من حالة اليأس عندها، اكتشافها حاجتها للذهاب الى دورة مياه: {كان الأمر كارثيا لعدم امتلاكي حينها أية مياه ولا صوابين، وصرت غاضبة للغاية} .
وبتجمعهم تحت الشجرة، كان والدها وأشقاؤها وأقاربها ينتظرون منها أن تطهو لهم الطعام، لكنها بقيت جالسة، محاولة تدبير أمورها. 
في النهاية، استعانت بوشاح الرأس وقطعته الى نصفين وعالجت نفسها بقطعة القماش؛ ودفعتها حالة الإحساس العالية للتفكير بنساء مثلها وقعن تحت الظروف نفسها، تقول أمينة ذات الستين عاما، وهي تحرك يديها على نحو التأثر العاطفي: "عندما تندلع كارثة أو حرب ما، يريد المجتمع الدولي توفير الماء والطعام والملجأ للناس، لكن هناك حاجة أخرى، هي كرامة النساء".
وقضت أمينة العقود الثلاثة الماضية وهي تسعى لحماية النساء الأخريات من حالة العجز التي شعرت بها حينما بدأت الحرب الأهلية؛ فبينما أسهم الصراع الدموي المسلّح والجفاف الشديد والهجمات التي يشنها تنظيم الشباب الإرهابي على جعل نحو ثلاثة ملايين صومالي لاجئين في بلادهم، جاهدت أمينة لأجل كرامة النساء بالوسائل الصحية وأقمشة الحجاب والصابون؛ لتكون من بين 24 إمرأة تم تكريمها من قبل الأمم المتحدة بمناسبة "اليوم العالمي للعمل الانساني".
وقد أقرت المنظمة الدولية ووكالات عالمية أخرى خلال العام 2011 بحملتها عندما تم تضمين ما أطلق عليه "عدة الكرامة" خاصتها ضمن رزمة الطوارئ التي يتسلمها النازحون من مجاميع تنسيق المأوى التابعة للأمم المتحدة، إذ تحتوي كل عدة على ملابس صومالية تقليدية وقطعة قماش للحجاب وملابس داخلية وسراويل تحتية قصيرة وفوط صحية وصابون ومسحوق للغسيل. ومنذ ذلك الحين، وزعت منظمة "انقاذ نساء وأطفال الصومال"، التي أسهمت أمينة بتأسيسها وتديرها حاليا، ما يقدر بسبعين ألف حقيبة صغيرة من "عدة الكرامة" للنازحات في مخيّمات اللجوء المؤقتة جنوبي البلاد ووسطها . 
 
أعداد مهولة
من بين المتلقيات لرزمة مواد النظافة الأساسية للنساء كانت فاطمة شريف، الراعية التي قاربت الستين عاما من عمرها. ومنذ أن ضرب الجفاف ديارها قبل خمس سنوات وتسبب بنفوق ماشية أسرتها، انتقلت الراعية للعيش في مخيّم للنازحين قرب مقاديشو؛ وجعلتها حزمة المواد النظافة الأساسية تشعر بمزيد من الراحة، بحسب وصفها، مضيفة: "تمكين المرأة من تتدبير أمور النظافة الشخصية يمثل جزءا من صياغة الكرامة التي يركز عليها مجتمعنا طبقا لثقافتنا وديننا،" وتسكن فاطمة في كوخ صفيح مع زوجها 
وأبنائهما وأحفادهما الثمانية.
وتؤوي مقاديشو نحو ستمئة ألف لاجئ صومالي، بحسب الأمم المتحدة، جاعلة المدينة من ضمن أزحم المراكز الرئيسة الافريقية للناس المرحّلين. أما المخيّمات الحضرية غير المنظمة، فلا توفر الأكواخ المؤقتة لديها الأمن الكافي للنساء والبنات، وتشير تقارير منظمة مراقبة حقوق الانسان الى أن أبرز المخاطر التي تواجهها النساء هي خطر الاغتصاب ليلا. 
ويزداد الوضع خطورة مع ابتعادهن أكثر خارج المدينة، مما يعني مسافات أبعد للوصول الى الخدمات الصحية وفرص العمل المحتملة.
وبينما توفر خدمات متعددة الكرامة للنساء داخل المخيمات، غير إنهن لا يمكنهن حماية أنفسهن من عملياء الإخلاء القسري العنيف الذي تقوم به عصابات أصحاب الأملاك المتنفذين في مقاديشو. 
فبحسب مجلس اللجوء النرويجي، وقعت حالات إخلاء كبرى من قبل تلك العصابات، ووصلت الى طرد أربعين ألف فرد من منازلهم المؤقتة خلال شهر واحد؛ ولا يوجد رد عملي للحد منها، ولا يتم العمل ضد الاخلاء لدرجة تبدو خدمات النظافة والرعاية الصحية المقدمة من ادارة المخيمات هويلة، بحسب أمينة التي تنفذ منظمتها تدخلات إنسانية وتوفير ملجأ ومياه للنازحين، بينما ترى أن بوسع الحكومة إعطاء منازل دائمة. وتوضح هذه السيدة أنها بالاضافة الى خدمات مساعدة النساء، تقوم منظمتها، برعاية الاطفال الصغار، تقديم  خدمات النظافة والتغذية لهم.
 
حب الخير
عندما تزور مخيّمات النزوح، حاملة هالة من السلطة والعزيمة، وتقابل بتحية احترام من النساء والبنات بعبارة "ماما أمينة"، وهي كنية تجعلها تشعر بالزهو. لم يكن مقدرا لأمينة الولوج للعمل الانساني، فمن خلال نشأتها وسط أسرة من الطبقة الوسطى، درست أمينة المحاسبة والادارة، وبعد عملها لفترة وجيزة مع البلدية، شرعت بعملها الخاص باستيراد الأدوية لصالح الصيدليات المحلية. لكنها في صبيحة أحد أيام كانون الأول 1990، ومع استعدادها للذهاب الى العمل وسط مقاديشو، نشب قتال كبير في الشوارع بهدف قلب نظام الحكم على أسس قبلية، فأضطرت أمينة لسحب والديها وهرب الجميع من المدينة، لينتهي بهم المطاف تحت شجرة في بالساد، وتعلق على ذاكرة تلك الأيام بالقول: "كسيدة أعمال، اعتدت على ارتداء ملابس جديدة راقية، لكننّي انتهيت الى لا شيء، وأدركت كيف هو حال النازحين." وعندما عادت "أمينة" الى مقاديشو بعد شهر، كانت وكأنها "خربة كبرى"، إذ شاهدت مدينتها مدمرة، والمنازل منهوبة مع غياب شبه كامل للمنظمات الدولية، ومن ثم قررت أن تأخذ الأمور على عاتقها وتبادر بالحراك مع غيرها من النساء المثقفات، لتبدأ توزيع الملابس على النسوة اللاتي فقدن منازلهن وممتلكاتهن. وبرغم وضع مقاديشو الذي كان تحت سطوة الحرب واحتشاد المدنيين، كانت لدى أمينة القوة للتفكير بالآخرين، كما تصفها "هندة أحمد"، إحدى المساهمات بتأسيس منظمة انقاذ نساء وأطفال الصومال: "انها مثقفة وتفهم مقاديشو جيدا، ولم تكن تبحث عن المال، وأنا شعرت بامكانية وضع ثقتي فيها."
وبالتطلّع بعيدا عن الانتماء القبلي المختلف لكليهما، أسست هندة وأمينة المنظمة معاً. ومنذ تأسيسها سنة 1992، توسعت المنظمة على مستوى جهات عدة، وتشغّل حاليا 300 موظف تقريبا، يعملون ضمن مشاريع مراكز الناجين من أعمال العنف على أساس الجنس وحملات للرضاعة الطبيعية. 
ولا تزال أمينة نشيطة في زيارة مخيّمات اللاجئين لتتحدث مع النساء والاستماع الى شؤونهم. أمينة وزوجها لم ينجبا أطفالا، لكنها تقول: إن "أبناء المخيّمات والنازحين هم
أبنائي".