عبد الجبار العتابي
كلّما أقرأ رواية أجد أنّ مؤلفها يحاول أن ينأى بنفسه عن احداثها، يقول على الأغلب أن شخوصها من الخيال ولا علاقة لحياته بها حتى وإن كان السرد فيها بصيغة أنا المتكلّم، وكأنّه لا يريد أن يكشف أسراره فيها الى الناس، فيما أحس أن الشاعر يسكب عواطفه كلّها ويفضح مكنونات نفسه ويفجّر كلّ صغائر الأمور وكبائرها مع اهتزاز كلّ خلاياه الحسيّة، فنصدق مشاعره أكثر مما تصدق الروائي، وهنا استذكرت ما قاله لي الناقد الراحل عبد الجبار البصري عن أسباب تحوله من الشعر، الذي بدأ به حياته الادبيّة، الى النقد، اذ قال لي (الشاعر لا أسرار له لأنّه يقول كلّ شيء عن نفسه في قصيدته، فهو مفضوح باستمرار، وهذه الفضيحة تؤدي به الى مواقف محرجة، وقد مررت أنا بهذه الحالة، فكان عليّ أن أكتم اسراري، وكان عليّ أن أثبت من عواطفي المتأجّجة وأصبح أكثر عقلانيّة، فتحوّلت من كتابة القصيدة الى النقد)، من هنا وجدتني أستعيد هذه الحقائق او الظنون.
حضور الذات الكاتبة
ذهبت أولا الى القاص والروائي محمد مزيد أسأله عن رأيه بعدما حدثته عمّا في نفسي، فقال: المسألة نسبيّة، قد نرى بعض الروايات هي عبارة عن سيرة ذاتية للروائي، كما تلاحظ بعض روايات كونديرا. واضاف: الشاعر العراقي هو الوحيد المفضوح، لأنّه يريد من يستمع اليه، وكأنّه مختنق الصوت لايسره إلّا بكشف خلجاته وهواجسه اليومية.. شعراء العالم يكشفون عن خلجات وهواجس بلدانهم .. هكذا أرى الأمر. وأوضح: باعتباري أمارس كتابة جنس الرواية، في الغالب اضع بعضا من سيرتي فيها، ليس شغفا بعرض حياتي امام الناس ولكن رغبة في التفريغ عن همٍّ إنساني واجتماعي وفلسفي. وتابع: الشعراء ليس لديهم سوى الاشارات لبثّ هواجسهم وهمّهم الانساني تلك الاشارات ليست ذات فائدة في معرفة دواخل الشاعر، أتحدث عن الشعراء الأصلاء أصحاب المواهب الكبيرة وليس اولئك الذين تأدلجوا في هموم سياسية. من جانبه قال الشاعر عقيل العلاق: لا .. ليس شرطا .. هناك نصوص شعريّة لايكتبها الشاعر لنفسه ولتجربته الذاتية، بل ربما تجارب لآخرين تأثّر بها وانصهر مع تفاصيلها .. واضاف: والعكس يحدث مع الروائي والقاص فقد يكتب رواية او قصّة من سيرته الذاتية ومن حياته اليومية .. والكثير انتجوا روايات وقصص من سيرتهم الذاتية .. إذن ليست تلك قاعدة ان الشاعر مفضوح والروائي مستور.اما الشاعر عصام كاظم جري فقال: هذا لا يعني أن الشاعر كائن مغفل. ولا يعني أنّه مهزوم الإرادة او مهزوز الثقة بالنفس وهو لم يكن في يوم ما ضعيف الحيلة!، الشاعر كائن فريد يستطيع أن يحسم اموره بوجدانه، وما يكتبه من نصوص شعرية إنّما يكتب لحظاته ويصف عبر الكتابة عواطفه وخفايا الذات وآلامها وأفراحها، إنّه يكتب كلّ ما يعتمل في دواخله من تطلّعات وانفعالات.
واضاف: والقصيدة في إحدى دلالاتها هي لحظة انعكاس للذات الشاعرة لما لقيت تلك الذات وما واجهت من أوجاع ومكر وخيانات،والشعر العربي على مرّ التاريخ جسد مفضوح، هو الإناء الوحيد الذي يستوعب مشكلات الحياة والمجالات الإنسانية. لايستطيع الشاعر أن يخفي أسراره لأنّه ينفذ من خلال تجربته الإبداعية إلى مشكلات الكون (الدين، السياسة، الجامعة، الشارع، العائلة، المدرسة). إلخ،
وتابع: ولا يخفى على دارسي الأدب أنّ الشعر منذ نشأته الأولى تناول شتى الاغراض الخاصة بالشاعر وبالقبيلة وبالصحراء وما بينهما. وبعد تطور الأحداث وتعدد العصور الأدبية وتحولات الاغراض والتجديد وظهور أغراض جديدة من الشعر السياسي وتعدد هموم المجتمع وهموم النفس. ظل الشعر مواكبا لروح العصور المتجددة ولم ينقطع الشاعر عن محيطه الداخلي والخارجي، اذا .. الشاعر كائن متجدد يحب الحياة، ويخطئ من يظن بأنّ وظيفة الشاعر: الفصاحة والعناية باللفظ والأسلوب المحبّب والصياغة المتقنة واللغة الرشيقة.. لا ابداً الشاعر ليس هكذا . ولن يكون في يوم ما كائنا مبهما. بل هو ذاكرة حياتية يعيش هموم ومشاكل الناس ويفصح عنها.
أسرار على طاولة القراءة
الى ذلك نقلت السؤال وما جاش في نفسي الى القاصّ جمال المظفر الذي أجاب قائلا: لاتمثل القصائد أسرار الشاعر دائما قد تكون محاورة لقضايا سياسية واجتماعية او لحالات عامة بعيدة عن دواخل الشاعر، وربما لاتمثل توجهاته كما في كتابة الرواية والقصة قد لايكون القاص او الروائي أحد شخوص العمل وانما يكتشف ويحرك شخصياته ويبقى يترقّبهم عن قرب. واضاف: هناك بعض الاعمال الادبية تكشف عن أسرار شخصية الكاتب او لنقل دواخله.وتابع: الشعر حالة ابداعيّة يحاول الشاعر فيها أن يظهر بلاغته وامكانيته في النسج والتصوير، وأنا لستُ مع رؤية الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور في أنّ القصيدة مدخل لشخصية صاحبها وأنّها الجاسوس الأمين الذي يكشف أسرار الشاعر الخبيئة. توقّفت في المحطة الأخيرة عند الناقد محمد جبير الذي قال: ساحة البوح في النص الابداعي شعرا او نثرا تنبع من الحاجة الذاتية لان الورقة البيضاء دائما ماتكون الطرف الثالث في علاقة البوح بين الناص والمتلقي، تنقل مايمكن لها نقله من اثقال المعاناة واشواق الحنين وتفجر ينابيع الفرح او الحزن
المكبوت.واضاف: اما .. أيهما اكثر بوحا السارد ام الشاعر؟ لا اعتقد ان بينهما منافسة ولا سباق المسافات الطويلة وانما هناك تقارب شجن الروح الذي يفيض من بين كلمات هذا وذاك قد تقترب موسيقى الشعر من ضفاف البوح فتفجر أنهر دموع المتلقي لكن كلمات السارد قادرة على حفر مجرى الدمع على خدود العشّاق بين سطر وآخر فكم من نصّ أفرحنا وكم من نصّ أبكانا.