ندم آينشتاين

بانوراما 2019/10/26
...

كارل غروسمان 
ترجمة: انيس الصفار
كتب "ألبرت آينشتاين" في كتابه: "من قطاف سنيني اللاحقة" الذي صدر في العام 1950 قائلاً: "لو كنت أعلم أن الألمان لن يتوصلوا الى صنع القنبلة الذرية لما حركت اصبعاً أبداً."
ما تحدث عنه آينشتاين كان تلك الرسالة التي بعث بها من منتجعه في "ناسو بوينت" ضمن منطقة "لونغ آيلاند" الى الرئيس "فرانكلين دي روزفلت" يحذره فيها من فتح قد تحققه ألمانيا النازية في ميدان الانشطار الذري، يمكنها من صنع قنابل من نوع جديد.
كان المتصور أن تكون هذه القنابل ذات قوة هائلة.. وهي القنابل الذرية.
رسالة آينشتاين تلك هي التي اطلقت ما سمي "مشروع مانهاتن" العاجل من جانب الولايات المتحدة لبناء سلاح ذري، أو بالاحرى الوصول الى القنبلة الذرية قبل أن تتمكن ألمانيا النازية من صنعها. كان ذلك هو الذي أدى الى التوسع في التكنولوجيا النووية وظهور ما صار يعرف باسم "العصر الذري".
عندما حل الثاني من شهر آب الماضي، الذي يمثل الذكرى السنوية لتلك الرسالة المؤرخة في 2 آب 1939، رفع المالك الحالي لمحال "روثمان الكبرى"، التي تقع وسط ساوثولد في "لونغ آيلاند"، الستار عن ساحة سميت "ساحة آينشتاين" تقع قبالة المحال المذكورة ويتوسطها تمثال نصفي لآينشتاين. خلال عقد الثلاثينيات من القرن الماضي كانت تجمع بين العالم المذكور و"ديفد روثمان"، المالك الأصلي للمحال، صداقة قوية عندما استأجر آينشتاين منزلاً في منطقة "ناسو بوينت" القريبة.
 
ليست رسالته
رأيت رسالة آينشتاين تلك وأنا صبي صغير حينما كانت معروضة داخل خزانة عرض ضمن مكتبة "أف دي آر" الرئاسية والمتحف في "هايد بارك". يومها تملكني شعور طاغ بمدى أهمية هذه الرسالة، أما اليوم فإني اعتقد أنها ربما تكون أعظم الرسائل أهمية على الاطلاق. أعدت طبع جزء منها كنسخة طبق الاصل في كتابي الذي اصدرته سنة 1980 وعنوانه: "حجب الحقيقة: ما يفترض أن تجهله عن الطاقة النووية." كما طرحتها للمناقشة عبر كتابات أخرى ومن خلال برامج تلفزيونية استضافتني.
لم يكن آينشتاين هو كاتب تلك الرسالة في الواقع، رغم أنه هو الذي راجعها وكان من بين الموقعين عليها، أما الشخص الذي كتبها فقد كان عالم الفيزياء "ليو زيلارد". 
الانشطار الذري، وهو عملية انقسام وتفتت الذرات، كان قد تحقق للتو في ألمانيا أواسط العام 1938، ولم يخفَ على زيلارد أن هذه العملية يمكن استخدامها لإحداث تفاعلات ذرية متسلسلة. ولهذا السبب قام هذا العالم بزيارة لآينشتاين في منتجعه وسط منطقة "ناسو بوينت" ومعه زميلاه عالما الفيزياء "يوجين ويغنر" و"إدوارد تيلر" للتداول حول هذا الأمر.
أشارت الرسالة المؤلفة من صفحة ونصف صفحة(المثبت في أعلاها اسم ألبرت آينشتاين وعنوانه ضمن شارع أولد غروف، ناسو بوينت، بيكونك، لونغ آيلاند) الى تجارب عن الانشطار يجري العمل عليها في ألمانيا، وقالت إن هذا يمكن استخدامه لإحداث تفاعل ذري متسلسل داخل كتلة كبيرة من اليورانيوم تنتج عنه مقادير عظيمة من الطاقة الى جانب توليد كميات كبيرة من عناصر جديدة من اشباه عنصر الراديوم."
تمضي الرسالة مبينة: "إذا ما انفجرت قنبلة واحدة من هذا النوع محمولة على متن زورق في ميناء فإن لها القدرة على تدمير ذلك الميناء وبعض المناطق المحيطة به، ولكن مثل هذه القنابل قد تكون أثقل من أن يمكن نقلها جواً. 
لدى الولايات المتحدة نوع ضعيف جداً من اليورانيوم وبكميات متواضعة، ولكن الخام الموجود لدى كندا وتشيكوسلوفاكيا السابقة أجود نوعياً. أما اهم مصدر لليورانيوم فهي الكونغو البلجيكية."
يمضي كاتب الرسالة فيقول: "لقد انتهى الى علمي أن ألمانيا أوقفت بيع اليورانيوم المستخرج من مناجم تشيكوسلوفاكيا، الواقعة تحت احتلالها." كان هذا مؤشراً على أن المانيا النازية ربما كانت بصدد السعي للحصول على القنبلة الذرية. لذا حثت الرسالة الحكومة على "اتخاذ اجراء ما" من جانب الولايات المتحدة ايضاً.
 
مشروع مانهاتن
بعد تلقيه الرسالة، تحرك الرئيس روزفلت وتشكل مشروع مانهاتن من داخل مختبرات سرية كبرى موزعة على مواقع عديدة في الولايات المتحدة أبرزها "لاس آلاموس" و"نيومكسيكو" و"أوك برج" و"تينسي".
حين حل الوقت وأنتج مشروع مانهاتن قنابله الذرية كانت المانيا قد هزمت في الحرب، لذلك القيت قنبلتان من هذا النوع على حليفتها اليابان. عارض زيلارد هذا الفعل وبيّن أن هذا الفعل لن يمكن تبريره، أو في الأقل لن يمكن تبريره قبل الإعلان بشكل تفصيلي عن الشروط التي يراد فرضها على اليابان بعد الحرب واعطاؤها فرصة للاستسلام." حشد زيلارد تواقيع مئات العلماء المشاركين ضمن مشروع مانهاتن ضمن التماس بعدم استعمال القنابل الذرية ضد اليابان. 
في وقت سابق من العام 1945 كان زيلارد وبقية العلماء قد اجتمع رأيهم على اعداد تقرير يدعون فيه الولايات المتحدة الى القيام بعرض لقنبلة ذرية يظهر لليابان عواقب رفضها الاستسلام، بيد أن علماء آخرين ممن شاركوا بكتابة التقرير خالفوهم الرأي. فقد كتب عالم الفيزياء "آرثر كومبتون"، أحد أعضاء مشروع مانهاتن، يقول: "لم نر أي بديل مقبول للاستخدام العسكري المباشر."
عبّر آينشتاين عن ندمه على توقيعه تلك الرسالة يوم 2 آب، كما عاب أيضاً الكيفية التي تسببت فيها القنابل الذرية بظهور الطاقة الذرية المدنية. كتب في كتابه "من قطاف سنيني اللاحقة" يقول: "لست أرى في الطاقة الذرية مغنماً مستقبلياً كبيراً، ولأمد بعيد، لذلك لا مفر من القول أنها سوف تبقى تهديداً شاخصاً خلال الزمن الحاضر." 
 
* عن موقع مجلة "كاونتر بنتش" السياسية نصف الشهرية