روبرت موغابي.. قصة صعود ورحيل
بانوراما
2019/10/27
+A
-A
توم بورتيوس
ترجمة: شيماء ميران
من الصعب ايجاد حل للتناقضات الموجودة في الحياة المهنية لقائد استقلال زيمبابوي الاول روبرت موغابي الذي توفي عن عمر ناهزا الـ 95 عاما. فهو رجل عمل واشتراكي وبراغماتي ومناضل من اجل الحرية، وصل الى صدارة كفاح التحرير بتواصله مع الناس والثوار على الجبهة الامامية للمقاومة، وتمكن بدهائه ايضا من التفوق على منافسيه.وكان ينبغي ان يكون
وصوله للسلطة بداية لعهد جديد في انتخابات عام 1980، إذ ورث موغابي احد اكثر الاقتصادات المستقرة والناجحة في افريقيا الى جانب ثقة شعب زيمبابوي المحرر. وكان يمكنه ان يصبح نيلسون مانديلا لزيمبابوي لما يمتاز به من ذكاء ودهاء السياسي.
الا ان موغابي لم يكن ديمقراطيا، إذ استمر في الحكم فترة طويلة وخسر صلته بشعبه، وفشل في الاستجابة للتغيرات السياسية العميقة التي شهدتها منطقة جنوب افريقيا مع نهاية الحرب الباردة وانتقال دولة جنوب افريقيا الى حكم الاغلبية السوداء.
كان موغابي عند انتهاء حياته المهنية معزولا عن شعبه والمسؤولين في دولته، وكانت حكومته تُشتم لفسادها وعجزها وسوء ادارتها لاقتصاد البلاد وممارستها للقمع السياسي، والدولة تترنح على شفا انهيار اقتصادي وصراع اهلي.وكما هو حال العديد من القادة الافارقة الوطنيين في القرن العشرين، كان روبرت غابرييل موغابي ابنا لمرحلة البعثات التبشيرية، ولد عام 1924 في قرية كتاما، احدى القرى التابعة للبعثات التبشيرية الكاثوليكية في حي سينويا، شمال غرب سالزبري عاصمة روديسيا الجنوبية وهو الاسم السابق لزيمبابوي. كان والده يعمل نجارا في البعثة التبشيرية ووالدته كانت تطمح بان يصبح كاهنا، لكن موغابي اولى اهتماما كبيرا بالنواحي التقليدية لطفولته في حياته اللاحقة، إذ رعى ماشية جده وصاد السمك وجمع الخردة مع اقرانه.
تأثره بالماركسية
بعكس معظم معاصريه، كان موغابي ذكيا ومولعا بالدراسة إذ امضى ست سنوات في التعليم الابتدائي، ثم تدرب على مهنة التعليم لمدة سنتين قبل ان يحصل على اول وظيفة له بصفة معلم بمدرسة ابتدائية في كتاما.
وخصص موغابي معظم وقت فراغه للدراسة وحصل عام 1950على مقعد دراسي ضمن كلية فورت هير المحلية بجنوب افريقيا، والتي كانت بوتقة اختبار القيادة الوطنية الافريقية، إذ تخرج منها مناضلون قوميون امثال مانديلا وغوفان إمبيكي والد رئيس جنوب افريقيا السابق ثابو إمبيكي.
وعلى حد قول موغابي فإنه ادرك رغبته بالسياسة في جامعة فورت هير. وبدأ بالتواصل مع جناح الشباب لحزب المؤتمر الوطني الافريقي الذي برز فيه القادة الراديكاليون للحركة الوطنية ومنهم مانديلا وامبيكي الاب ووالتر سيسولو وآخرون، وقد بدأوا يتفوقون على الجيل الاكبر منهم سنا.
كان موغابي اول من احتك بالماركسية والتقى بعدد من شيوعيي جنوب افريقيا، الذين كانوا آنذاك يتحركون لتشكيل تحالف تكتيكي مع القوميين في حزب المؤتمر الوطني الافريقي ضد عدوهم المشترك: نظام التمييز العنصري.وعند عودته الى روديسيا اصيب بخيبة امل في بواكير جهوده لولوج عالم السياسية، فوجد ان القيادة الوطنية مقيدة للغاية ولم يكن قد ظهر البديل الاكثر راديكالية بعد ، لمجابهة سلطة الاقلية البيضاء الكبيرة.انتقل موغابي الى شمال روديسيا إذ التقى بكل من الزعيم القومي الزامبي هاري إنكمبالا، وكينيث كاوندا؛ اول رئيس لزامبيا، وكانا حينها يعملان للاستقلال التام عن بريطانيا.
دراسة رغم الاعتقال
وحصل موغابي على مهنة تعليمية في غانا بعد فترة قصيرة من استقلالها، وشهدَ بشكل مباشر نشوة التحرر من حكم المستعمر الابيض والحيوية الثورية لحكومة كوامي نكروما الافريقية الشابة.
هذه التجربة جعلت من موغابي ظاهرة وسط الحركة القومية المعاصرة عند عودته الى روديسيا عام 1960 مع زوجته الشابة سالي التي كانت من غانا.
كانت حكومة المستعمرين البيض يزداد القمع فيها، واصبح فشل المشروع البريطاني واضحا بضم جنوب وشمال روديسيا مع نياسلاند المعروفة اليوم باسم جمهورية مالاوي وتشكيل اتحاد افريقيا الوسطى، ولن يكون امامها سوى التحرك بسرعة لمنح الاستقلال لمستعمراتها وسط افريقيا.ولإحباط هذا في جنوب روديسيا انتخب المستعمرون البيض الجبهة الروديسية للسلطة تحت قيادة السياسي إيان سميث، وبدأوا بالتحضير لاعلان الاستقلال من جانب واحد.
النتيجة المنطقية لهذا كانت نظام حاكم ابيض يمارس التمييز العنصري ويقمع القومية الافريقية وفي النهاية حدوث حرب. وبصفته العضو الصاعد ضمن "الحزب الديمقراطي الوطني" اصبح موغابي المتحدث الشعبي عنه، وترأس مؤتمره لتلك السنة ثم انتخب سكرتيرا عاما للحزب ومسؤولا عن دعايته. وفي العام التالي حُظر الحزب وتشّكل الاتحاد الشعبي الأفريقي الزيمبابوي "زابو" تحت قيادة جوشو نكومو.كان موغابي آنذاك معروفا كشخصية مهمة نسبيا داخل الحركة القومية. عندما حُظر زابو عام 1962 وُضع موغابي تحت الاقامة الجبرية. وجاءت تهم التحريض والتآمر ضده اثر وصفه للجبهة الروديسية التي اعتلت سدة الحكم بانهم " حفنة من رعاة البقر".
وأُتهمت زوجته ايضا باستخفافها بالملكة لقولها بانها لا تقوم بأي شيء لمساعدة الافارقة. كما تصاعدت التوترات داخل صفوف الحركة القومية حول كيفية مواصلة الكفاح ومواجهة تعنت الاقلية البيضاء المتزايد.
وصلت التوترات ذروتها بانشقاق كل من موغابي وندابانينجي سيثول واخرين عن جوشو نكومو وحزب زابو، وتشكيل حزب الاتحاد الوطني الافريقي لزيمبابوي (زانو) الاكثر راديكالية ومجابهة تحت قيادة سيثول. ثم حُظر زانو واعتقل موغابي مع معظم القيادة لمدة عشر سنوات. وكان معظم القادة القوميين قد اتخذوا قرارا ببدء حرب ثورية للتحرير ووضعوا الخطط الاولية للتجنيد والتدريب والتثقيف.
مناورة الانفصال
خلال فترة السجن، قام موغابي بتوحيد خطط زانو للحرب وساعد بإدارة مراحلها الاولى قدر استطاعته، وحصل على ثلاث شهادات جامعية اخرى في (القانون والإدارة) وقام بتعليم السجناء السياسيين الاخرين، وتوفي ابنه اثر اصابته بالملاريا.
ومع تقدم الحرب بدأ انشقاق الحزبين يتخذ طابعا عرقيا. كان زابو ومقره الرئيس في زامبيا مدعوما من قبل الاتحاد السوفييتي وناشطا بشكل رئيس في مناطق ماتابيليلاند التي تتحدث اللغة النديبيلية، بينما زانو ومقره الرئيس موزبيق كان مدعوما من قبل الصين واستقطب مؤيديه في مناطق شونا شمالي شرق البلاد؛ الاكبر والأكثر كثافة سكانية.
وبدأ حزب زانو بالتفوق على نظيره زابو عسكريا وسياسيا، وخصوصا بعد فوز حزب جبهة تحرير "فريلمو" بالسلطة في موزبيق عام 1974.
كان اطلاق سراح موغابي عام 1974 جزءا من مناورة الانفصال بالطريقة التي كانت تأملها كل من بريطانيا وجنوب افريقيا واميركا للتخفيف من توترات الحرب الباردة التي كانت تتطور عبر روديسيا، وشارك معظم القادة الوطنيين في التفاوض مع حكومة سالزبري.
مع ذلك ادرك موغابي ان النضال قد يمضي الى ابعد من ذلك اذا اذعن سميث وحلفاؤه الى حكم الاغلبية السوداء. وعاد مباشرة بعد اطلاق سراحه الى الريف لتوجيه الدعوات وتحشيد الناس ضد مفاوضات الانفصال ولكسب مؤيدين من اجل استمرار كفاح التحرير.كانت حملة الاستقطاب ناجحة وسرعان ما عبر مئات الشباب الحدود الموزمبيقية متجهين الى معسكرات "زانلا" التدريبية الخاصة بحزب زانو. وعندما سافر موغابي الى موزمبيق ليشرع بوضع حرك سياسي للمقاومة، قرر قادة الخط الامامي لزانلا التخلص من سيثول الذي كانوا يرونه ضعيفا وغامضا واختاروا موغابي بدلا منه.
كانت قيادته لزانو حاسمة لضمان النصر للحركة القومية في الكفاح وتامين تفوقه بإدارة ما بعد الحرب، وعمل الحزب تحت قيادته على تسوية الخلافات الجوهرية مع زابو لتشكيل حزب الجبهة الوطنية.
وفرض موغابي سلطته تدريجيا على زانو وزاد من الضغط العسكري والدبلوماسي والاقتصادي على حكومة سميث حتى بدأت بالانهيار. وبعد فشل تسوية سميث وافق جميع اطراف النزاع عمليا على المشاركة في مؤتمر لانكستر هاوس الذي مهد الطريق للانتخابات وولادة دولة زيمبابوي المستقلة.
دليل النصر الحقيقي
كان فوز موغابي المبهر في انتخابات 1980 بحصوله على 63 بالمئة من الاصوات مباغتا للجميع، رغم استخفاف الصحافة كثيرا بجاذبية شخصيته وبتاثيرات حملة زانو للتحشيد على الرأي العام. فكان فوز رجل تصوره الصحافة الحكومية لعدة سنوات بانه شيوعي ارهابي خطير مخيف بالنسبة للعرق الابيض.الا ان نتيجة الانتخابات كانت دليلا على نظرة الناس لموغابي بوصفه منتصرا حقيقيا في الكفاح، ومنحته تفويضا كاملا. وفي اول خطاب متلفز له اعطى انطباعا مدنيا واصلاحيا معبرا وواضحا. وبوصفه رئيس وزراء ورئيسا لاحقا فقد اعتمد الطراز الرسمي التقليدي لملابسه وكأنه لم يكن مقاوما ثوريا من قبل.
وبعد توليه السلطة، اتجه بسرعة الى انشاء دولة الحزب الواحد وبحكم الامر الواقع، وفي بداية ثمانينيات القرن الماضي قمع تمرد نديبيلي في ماتابيليلاند بوحشية كبيرة ، فكان ذلك دليلا على حكمه القاسي الذي ابقاه في السلطة وتسبب بانتقاده في النهاية، لكن مجال التعليم كان احد الانجازات الكبيرة التي حققها، إذ تتمتع زيمبابوي بفضله اليوم باعلى درجات التعليم في افريقيا. اعلن موغابي نفسه ماركسيا وانه سيصبح الحليف المفضل للغرب ويعمل على حماية مصالح البيض والتجارة الغربية في المنطقة ما دام يناسبه ذلك. ومع نهاية ثمانينيات القرن الماضي بدأ العالم وجنوب افريقيا يتغيران، إلا ان رئيس زيمبابوي لم يتغير معهما. والاكثر من ذلك بدأت تظهر النتائج الاقتصادية الوخيمة لنظام حكمه الاستبدادي وخصوصا عنصر الفساد في دولة رأسمالية.
ومع بزوغ عهد جديد في افريقيا ونهاية الحرب الباردة بدأ الغرب بتشجيع ظهور انماط قيادية اكثر ثقافة. وكان موغابي وحزبه يسيران بالاتجاه المعاكس فقام بإضعاف زابو فعليا تحت مسمى الوحدة الوطنية خلال ثمانينيات القرن الماضي وحجّم المعارضة وجردها من القوة. وفي انتخابات عامي 1990 و1995 عاد موغابي للسلطة وباغلبية كبيرة، رغم ان الاقبال المنخفض للناخبين كان مؤشرا على تزايد الاستياء الشعبي.
عزلة موغابي
بدأت الاحتجاجات والاضرابات الاولى المناهضة للحكومة عام 1988، وادت مراسم توليه الحقبة الرئاسية الثالثة عام 1995، التي اخذت طابع التتويج القبلي، انتهى بجلود الفهود والرموز الاخرى للملكية في افريقيا، وزواجه الثاني ومشتريات زوجته الباهظة الى حدوث اضرابا واسعا للموظفين، واستمرت الاحتجاجات طوال التسعينيات، ثم ظهر تشكيل المعارضة الحقيقي بإسم "حركة التغيير الديمقراطي".شكلت المعارضة المدعومة من وسائل الاعلام الاذاعية المستقلة تهديدا حقيقيا لسلطة موغابي. ومن المفارقات ان نجاح حركة التغيير الديمقراطي وسط الشباب يُعزى الى مستوى التعليم العالي الذي عمل موغابي نفسه على تشجيعه. هذه كانت اللحظة التي وجب عليه الانحناء والرحيل.
وبدلا من ذلك كان رده القيام بحملة منظمة للقمع والدعاية لابقائه في السلطة ضمت الميليشيات المؤيدة للحكومة التي تسمى بالمحاربين القدماء، والقيام بحملة ضد الاعلام والقضاء المستقلين، وتزوير الاصوات وغيرها. ثار الغرب ضد موغابي الذي اتخذ موقفا اكثر مناهضة للغرب بالدمج بين القومية والاشتراكية والتمييز وسعى الى إلقاء اللوم بشأن الاضطرابات في زيمبابوي على اعدائه الواضحين، وهم: المزارعون البيض وبريطانيا وصندوق النقد الدولي وإبعاد التهم عنه. ولتغطية ذلك كله، اختار موغابي المقاربة العسكرية للسياسة الاقليمية عندما انضم الى انغولا وناميبيا للتدخل في الكونغو الى جانب رئيسها غير المنتخب لوران كابيلا عام 1998. كل هذا اكسبه عزلة متزايدة داخل بلاده والمنطقة ودوليا ايضا.
وما اثار خشية القادة المحليين من ازمة اقتصادية وسياسية في زيمبابوي قد تزعزع الاستقرار في المنطقة باكملها هو تدهور الاقتصاد الى ابعد الحدود وتهالك مؤسسات الدولة تماما وتهديدات الحرب الاهلية، وهجرة مئات الالاف من الزيمبابويين المرعوبين والعاطلين عن العمل الى جنوب افريقيا. لكن عزلة موغابي بدت وكأنها تقوي عزمه على البقاء في السلطة.
الاجبار على الاستقالة
لم تكن هناك آلية خروج بديلة واضحة (مثلما هو حال أغلب الساسة الافارقة) لرجل حكم لأكثر من عقدين. وكانت زمرة قليلة قوية من الموالين لحزبه يدعمون قراره بصوت عال عبر وسائل الاعلام الحكومية ويحملون البيض والمستعمرين الجدد مسؤولية ويلات الزيمبابويين. ورغم ضعف صحته كان موغابي حريصا على الحكم السياسي المكيافيلي حتى مع تجاوزه الثمانين من
عمره.
اظهر موغابي براعة في فهم حقائق السياسية الافريقية والقدرة على التلاعب بها من اجل مصلحته الى النهاية. لكن المشكلة انه في نقطة ما في مسيرته جنحت مصالحه ومصالح اغلبية الزيمبابويين بعيدا عن بعضها. ففي منتصف تشرين الثاني عام 2017 وُضع هذا الموضوع في المقدمة عندما سيطر الجيش على السلطة في زيمبابوي، وبعد عدة ايام ضغط حزب الاتحاد الوطني الإفريقي لزيمبابوي على الرئيس للاستقالة.
وعلى الرغم من ان مذكرة الاقالة اتهمت موغابي لكونه "مصدر عدم الاستقرار"، الا انه تشبث بالسلطة بعناد. لكنه أرغم على التنازل والاستقالة بعد 37 عاما من السلطة، لتنطلق الاحتفالات العفوية في انحاء البلاد. إن استمرار ابطال الشعوب في السلطة فترة طويلة ليس مؤذيا للشعب فقط وانما للابطال انفسهم، لان الامر سينتهي بهم بخسارة كرامتهم وسمعتهم. فلو عمل موغابي مثل مانديلا عندما خطط لتقاعده وانتقال السلطة السلس بعد قضائه عشر سنوات من الحكم، لكان افضل له ولزيمبابوي، ولذكرت انجازاته كقائد للكفاح من اجل حكم الاغلبية السوداء، افضل من ذكر اخفاقاته خلال السنوات الاخيرة من فترة حكمه.
عن صحيفة الاندبندنت البريطانية