الذكاء الاصطناعي يغيِّر كل جوانب الحرب
بانوراما
2019/10/28
+A
-A
مجلة ايكونومست
ترجمة: خالد قاسم
حلقت طائرة تابعة للبحرية الأميركية على ارتفاع منخفض فوق الأدغال، وأسقطت حزمة من الأجهزة على خيمة في الأسفل. كان بعضها ميكروفونات للاستماع الى خطوات المسلحين أو تشغيل العجلات، وأخرى كاشفات زلازل ضبطت لتسجيل اهتزازات الأرض، وأغرب الأجهزة كانت مستشعرات شمية تشم رائحة الأمونيا بإدرار البشر. أرسلت عشرات آلاف تلك الأجهزة بياناتها الى طائرات مسيرة وأجهزة كمبيوتر، وخلال دقائق اتجهت طائرات حربية لتقصف بشدة الاحداثيات المرسومة حسابيا. كانت تلك عملية "إيغلو وايت" السرية مستقبل الحروب عام 1970.
لم تنجح محاولة أميركا لقطع الطريق على "هو تشي منه" من لاوس الى فيتنام، وكلفت نحو مليار دولار سنويا (سبعة مليارات ونصف مليار دولار تقريبا بسعر اليوم) ولم توقف الاختراق.
لكن اغراء الحرب شبه الأوتوماتيكية لم يخفت، وفكرة جمع البيانات من المستشعرات ومعالجتها مع الخوارزميات التي تعمل بقوة معالجة الى الأبد وتعمل على المخرجات بشكل أسرع من العدو، تقع بقلب الفكر العسكري عبر القوى الكبرى عالميا، ويتعزز ذلك بتطورات جديدة في مجال الذكاء الاصطناعي.
ذكرت وزارة الدفاع الأميركية أن الذكاء الاصطناعي "يفترض به تغيير صفة ساحة القتال المستقبلية"، وأطلقت مركز الاستخبارات الاصطناعي المشترك في صيف 2018، وخصصت ميزانية البنتاغون لعام 2020 مليار دولار على هذا المجال وأكثر من ذلك بأربع مرات على القدرات الذاتية والمسيرة المعتمدة عليه.
صعود الآلات
تجرى موجة مشابهة من النشاط في الصين التي تريد قيادة العالم بهذا المجال بحلول 2030، اضافة الى روسيا حيث توقع الرئيس فلاديمير بوتين "أيا كان من سيصبح زعيما بهذا المجال فهو سيحكم العالم".
مصطلح الذكاء الاصطناعي واسع وضبابي، ويغطي نطاقا من التقنيات مثل أنظمة تتبع القواعد أبتكرت خلال الخمسينيات وصولا الى تعليم الآلات المعاصر المبني على الأرجحيات اذ تعلّم الحواسيب أنفسها لتنفيذ المهام.
يقارن مايكل هوروفيتز من جامعة بنسلفانيا بين الذكاء الاصطناعي ومحرك الاحتراق الداخلي أو الكهرباء، فهو تقنية تمكين ذات تطبيقات كثيرة. ويقسم مايكل تطبيقاته العسكرية الى ثلاثة أنواع: الأول يسمح للآلات بالعمل بدون اشراف بشري، والثاني معالجة وتفسير مقادير كبيرة من البيانات، والثالث مساعدة أو حتى تنفيذ قيادة الحرب والتحكم بها.
تعد جاذبية التحكم الذاتي واضحة، فالروبوتات أرخص ثمنا وأكثر صلابة واستهلاكا من البشر، لكن الآلة قادرة على التجول داخل ساحة الحرب ناهيك عن اراقة الدماء عليها، يجب أن تكون ذكية بما يكفي لحمل العبء. لذلك يكون الذكاء الاصطناعي مطلوبا لمنح الآلات المهارات الضرورية، وتشمل مهارات بسيطة مثل الادراك والملاحة، ومهارات أعلى ترتيبا مثل التنسيق مع العناصر الأخرى.
الآلات الذكية القادرة على جمع تلك الامكانيات تستطيع تنفيذ أشياء لا يستطيع البشر القيام بها، ويشير "كينيث بين" من كينغ كولدج في لندن إلى انه "يقدر نظام الذكاء الاصطناعي التفوق على طيار عسكري خبير بمحاكاة القتال جو جو."
ونفذت وكالة مشاريع الأبحاث المتطورة التابعة للبنتاغون في شباط الماضي آخر اختبار على سرب طائرات مسيرة قادر على التعاون داخل بيئة "عالية التهديد" حتى عند انقطاع اتصاله مع
البشر.
تعزيز القدرات
من الخطأ الاعتقاد بأن الذكاء الاصطناعي مفيد بمهام ساحة القتال فحسب، ويتوجب على الروبوتات العمل وفقا لما تراه، لكن بالنسبة لمنصات عسكرية كثيرة مثل طائرات التجسس والأقمار الاصطناعية فالنقطة المهمة هي ارسال بيانات خام قد تتحول الى معلومات مفيدة، وشهد العام 2011 ارسال 11 ألف طائرة مسيرة أميركية أكثر من 327 ألف ساعة (ما يعادل 37 سنة) من
اللقطات.
التطبيق الكبير الثاني للذكاء الاصطناعي العسكري هو معالجة البيانات، اذ تفوقت الخوارزميات في الاختبارات المخبرية على أداء البشر بتصنيف الصور عام 2015 وضاعفت أداءها بمهمة أصعب وهي تقسيم الأهداف وتتضمن انتقاء أهداف متعددة من صورة واحدة بين عامي 2015 و2018 وفقا لمؤشر جامعة ستانفورد السنوي لتقدم الذكاء الاصطناعي.
لكن رؤية الكمبيوتر بعيدة عن الكمال ويمكن استغلالها بطرق لن تخدع المراقب البشري، لذلك استنتج البنتاغون في شباط 2017 أن خوارزميات التعلم العميق "تستطيع العمل بمستوى قريب من البشر" لذلك أسس فريق "الحرب الخوارزمية" ويستخدم التعلم العميق وأساليب أخرى لتحديد هوية الأهداف والتصرفات المريبة من خلال لقطات الحرب ضد عصابات داعش الاجرامية، والهدف انتاج استخبارات فعالة وهو ما يؤدي الى عمليات قصف أو هجمات قوات خاصة.
تطبق الشركة البريطانية "ايرث آي" خوارزميات تعلّم الآلات من أقمار اصطناعية عدة لتحديد متغيرات مختلفة للطائرات العسكرية عبر عشرات القواعد بدقة 98 بالمئة كما يقول شين كوربت نائب مارشال متقاعد بالقوات الجوية الملكية ويعمل لدى الشركة. ومن خلال مشاهدة القواعد مع مرور الوقت تستطيع البرمجيات التمييز بين عمليات الانتشار الروتينية والتحركات غير الطبيعية، وتنبيه المحللين تجاه التغييرات الكبيرة.
تقتات الخوارزميات بالطبع على كل شيء ويمكن تغذيتها بأي نوع من البيانات، وليس الصور فحسب. ويقول السير أليكس يونغر مدير المخابرات البريطانية "البيانات الكبيرة مجتمعة مع التحليلات المعاصرة تجعل العالم شفافا".
وصفت وثائق مسربة من وكالة الأمن القومي الأميركية عام 2012 برنامجا يدعى "سكاي نت" ويطبق تعلّم الآلات على بيانات هواتف نقالة باكستانية بهدف انتقاء أشخاص قد يعملون ناقلين للمجاميع الارهابية.
وتشمل البيانات على سبيل المثال من سافر من لاهور الى المدينة الحدودية بيشاور في الشهر الماضي، ويذكر السير ريتشارد بارونز الضابط المتقاعد الذي قاد القوات المشتركة البريطانية حتى عام 2016: "هذا بداية تحول المخابرات من العالم القديم عندما كان القادة يطرحون سؤالا وتستخدم وكالات الاستخبارات أنظمة جمع المعلومات لايجاد الجواب، الى عالم يشهد وجود الأجوبة في برامج السحاب."
انقلاب اصطناعي
الطريقة الثالثة التي يغير بها الذكاء الاصطناعي الحرب هي اختراقه صنع القرار العسكري بدءا من أصغر وحدة وصولا للقيادة العليا.
يعد "السهم الشمالي" وهو أداة صنعتها شركة الذكاء الاصطناعي الاسرائيلية يونيكاي واحدة من منتجات كثيرة في السوق تساعد القادة بمهمات التخطيط عبر معالجة كميات كبيرة من البيانات على متغيرات مثل مواقع العدو ومديات الأسلحة والتضاريس والمناخ، وهي عملية تستغرق عادة بين 12 الى 24 ساعة للجنود وفق الطريقة القديمة من خلال دراسة الخرائط والرسوم البيانية. تتغذى الأداة ببيانات من كتب وكراسات، مثلا سرعة الدبابات بارتفاعات مختلفة، ومقابلات مع قادة
مخضرمين. ومن ثم تقدم الخوارزمية خيارات لصانعي القرار الى جانب تفسير لسبب اختيار كل حل.
تعمل منصات "الأنظمة الخبيرة" مثل السهم الشمالي وبرنامج تدريب أميركي مشابه أسرع بكثير من العقل البشري، أي دقيقتان للبرنامج مقابل 16 ساعة عمل للفرد البشري في أحد الاختبارات، لكنها تميل لتوظيف تقنيات متبعة للقوانين وهي بسيطة خوارزميا، ويعد هذا ذكاء اصطناعيا وفق المعايير التاريخية.
أجريت اختبارات بين عامي 2004 و2008 لعمليات دهم نفذت بدقة وسرعة أعلى من المخططين البشر. وقام الخبراء بمحاكاة لمدة ساعتين عن معارك في بغداد، إذ وضعوا فرقا بشرية أمام الدهم أو بشر آخرين، وأختير ضباط متقاعدون لمحاكاة دور المجاميع المسلحة وشعروا بخوف شديد مما دفعهم للتوقف عن الكلام مع بعضهم البعض واستخدام اشارات اليد بدلا من ذلك، كما قال بوريس ستيلمان أحد مصممي البرنامج، وطور هذا الدهم للاستخدام العسكري.
لعبة عسكرية
شهد آذار 2016 تفوق خوارزمية للتعلم العميق صنعته شركة "ديب مايند" على أحد أفضل لاعبي العالم بلعبة ستراتيجية صينية قديمة. وأجرت الخوارزمية عدة حركات عالية الابداع أربكت الخبراء، وفي الشهر التالي عقدت الأكاديمية الصينية للعلوم العسكرية ورشة عمل عن مضامين المباراة.
وذكرت إلسا كانيا خبيرة الابتكار العسكري الصيني: "بالنسبة لواضعي ستراتيجية الجيش الصيني، أحد دروس انتصارات الخوارزمية يفيد بأن الذكاء الاصطناعي قد يخلق تكتيكات وأحاييل متفوقة على اللاعب البشري في لعبة يمكن مقارنتها بالتمرين العسكري."
أنتجت ديب مايند برنامجا آخر يدعى "ألفا ستار" نهاية العام الماضي وهزم أحد أقوى لاعبي العالم بلعبة الفيديو "ستار كرافت 2" اذ تخبأ المعلومات عن اللاعبين وفيها درجات أعلى من حرية اتخاذ القرار مقارنة مع اللعبة الصينية.
ويأمل ضباط أن هذه الكفاءة بأداء الألعاب قد تترجم أخيرا الى موهبة بالمناورات المبدعة والبارعة المعروفة عسكريا.
ويقول مايكل براون مدير وحدة الابتكار الدفاعي التابعة للبنتاغون: إن الذكاء الاصطناعي مكّن "التفكير المنطقي الاستراتيجي" وهو أحد أولويات منظمته. لكن اذا كانت الخوارزميات التي تتفوق على الابداع البشري تستطيع تجاوز الفهم الانساني، فهي تثير مشكلات عن القانون والأخلاق
والثقة.
وتشترط قوانين الحرب سلسلة أحكام عن مفاهيم مثل التناسب (بين الأذى المدني والميزة العسكرية) والضرورة. والبرمجيات التي لا تستطيع تفسير لماذ أختير هدف ربما لا تلتزم بتلك القوانين.
يشير السير بارونز الى أن وزارة الدفاع البريطانية اشترت بالفعل نموذجا تكنولوجيا لنسخة مبنية على أساس برنامج السحابة لبيئة تشغيلية معقدة، تعرف بإسم البيئة الاصطناعية المفردة، وهي نسخة عسكرية لبرمجيات تشغيل ألعاب فيديو رقمية على نطاق واسع مثل "فورتنايت"، وصنعت النموذج شركة الألعاب "إمبروببل" وشركة "كاي" المعروفة بمحاكاة الطيران وتستخدم معايير مفتوحة ولذلك كل شيء مثل الاستخبارات السرية وبيانات الطقس الفعلية يمكن الوصول اليها.
الدور البشري
تؤكد الحكومات الغربية أن البشر سيزودون بالمعلومات ويشاركون بصنع القرار، ويشرفون على الأمور.
لكن حتى الكثير من ضباطهم غير مقتنعين بذلك، ولن تقتصر النتيجة على أسلحة ذاتية العمل فحسب ولكن ساحة قتال آلية. عند بداية الحرب ستختار أنظمة الذكاء الاصطناعي الأهداف بدءا من منصات اطلاق الصواريخ الى حاملات الطائرات، وتتحكم بالضربات السريعة والدقيقة لتدميرها وفق أكثر الأساليب كفاءة.
تبقى النتائج الأوسع نطاقا لذلك غير واضحة. ويقول أحد الباحثين أن امكانية الضربات الدقيقة والسريعة "قد تقلص الاستقرار عبر زيادة الخطر المحتمل للهجوم المفاجئ." لكن الذكاء الاصطناعي قد يساعد المدافعين أيضا بالتصدي لتلك الضربات، عبر تحديد هوية الاشارات الدالة على الهجوم الوشيك. أو على غرار الانتشار الواسع للمتحسسات الأميركية خلال حرب فيتنام، ومع ذلك لا توجد قوة تريد المخاطرة بالتخلف وراء منافسيها وهناك يكون للسياسة وليس للتكنولوجيا فقط
تأثير.
انفاق البنتاغون على الذكاء الاصطناعي مجرد جزء صغير من 20 - 30 مليار دولار أنفقتها كبرى شركات التكنولوجيا عام 2016، ومع أن شركات أميركية كثيرة سعيدة بكسب أموال الدفاع (مثل أمازون ومايكروسوفت اللتين تقتربان من عقد قيمته 10 مليارات دولار لحوسبة السحاب مع البنتاغون) لكن أخرى أكثر قلقا فشركة غوغل قالت العام الماضي أنها ستسمح بتوقف مشروعها العسكري البالغة قيمته 9 مليارات دولار، بعد احتجاج 4 آلاف موظف على مشاركة الشركة في "تكنولوجيا الحرب".
أما في الصين من جهة ثانية، فمن السهولة الضغط على الشركات لخدمة الدولة ولا تشكل قوانين الخصوصية عائقا كبيرا. ويبقى من غير الواضح اذا كانت البيانات المدنية ستشغل الخوارزميات العسكرية، لكن هذه المسألة تبقى بأذهان قادة الجيوش. ويقول الجنرال جاك شاناهان مدير مركز الاستخبارات الاصطناعية المشترك في البنتاغون: "ما لا أريد رؤيته هو مستقبل يمتلك أعداؤنا المحتملون فيه قوة ذكاء اصطناعي كاملة ونحن
لا نمتلكها."