إيران تفرض ستراتيجيتها في المواجهة البحرية

بانوراما 2019/10/28
...

ديفد كركباتريك وفرناز فسيحي
ترجمة: انيس الصفار
يبدو أن الرئيس ترامب أخذ يلين تجاه إيران، فها هو قد افترق عن أكبر مستشار في إدارته كان يدعو الى المواجهة، بعد ذلك أرسل اشارات تنم عن رغبته في الالتقاء شخصياً بنظيره الإيراني، كما تفيد التقارير بأنه يدرس تخفيف بعض العقوبات المفروضة.
بيد ان إيران ردت بالعنف، كما يقول المسؤولون الأميركيون. يتهم هؤلاء إيران بأنها هي التي نسقت، أو حتى قد تكون شنّت، الهجوم الكبير الذي وقع أواسط شهر ايلول على منشآت نفطية كبرى في السعودية فسبب هزة قوية لاسواق الطاقة وأذلت حليفاً مهماً للأميركيين.
تكتيك صفع الخد الآخر ليس بالأمر المفاجئ، كما يقول إيرانيون مطلعون. يقول هؤلاء أن طهران خلصت الى أن الأفعال الهجومية الأخيرة التي أقدمت عليها قد عززت بشكل فعال قدرتها في الضغط على الغرب والمنطقة بشكل فعال وأن الرئيس ترامب، على الرغم من كل عواصف التهديد التي يطلقها، لديه عزوف شديد يردعه عن مجازفة التورط في مواجهة عسكرية مفتوحة الأمد في الشرق الأوسط من شأنها تهديد امدادات النفط العالمية وهو في طور الاستعداد لحملة إعادة
 انتخابه.
يقول علي أنصاري، وهو استاذ في التاريخ الإيراني من جامعة “سان أندروز” بسكوتلندا: “القادة الإيرانيون المتنفذون يرون أن تذبذب ترامب في مواقفه ضعف.” لذلك اقتنعوا بأن سياسة “المقاومة القصوى” التي يتبعونها قد نجحت وأخذت تعطي ثمارها.
 
رفض استخدام القوة
لقد فرض ترامب عقوبات على صادرات النفط الإيراني، ويجادل المحللون بأن صعوبة الموقف الذي يمرون به أقنعت القادة الإيرانيين، الذين يسمون العقوبات “حرباً اقتصادية”، بأن رد الضربة هو خيارهم الوحيد. ولكن الإيرانيين يقولون ان ترامب قد قدم البرهان على نفوره من استخدام القوة العسكرية لتنفيذ تهديداته.
يزعم المسؤولون الأميركيون أن القوات الإيرانية هي التي قامت بأعمال التخريب ضد عدد من ناقلات النفط قرب مضيق هرمز خلال شهري أيار وحزيران الماضيين، كما أسقطت طائرة استكشاف أميركية مسيرة بلا طيار في شهر حزيران. في البداية أمر ترامب باطلاق موجة من الضربات الجوية الأميركية انتقاماً للطائرة المسيّرة التي أسقطت، ولكنه عدل عن ذلك وألغى الأمر في اللحظة الأخيرة.
بعد ذلك أرغم “جون بولتون”، وهو اعتى صقر ضد إيران في الإدارة الأميركية، على ترك منصبه كمستشار للأمن القومي، وقيل أن خلافه مع الرئيس له علاقة بالمحادثات مع طهران.
يبدو أن إيران، التي لا تفتأ تطالب برفع العقوبات عنها، قد انتقلت الى اسلوب كيل الضربات، سواء بشكل مباشر أو من خلال حلفاء. كما يبدو أن ردود فعل واشنطن الفاترة، التي كان منها رد فعلها الأولي على هجوم يوم السبت، قد جاءت كلها مؤيدة ومبررة لتلك الستراتيجية، كما يقول عديد من المحللين.
حتى عندما ضم ترامب صوته الى جوقة المسؤولين الذين اشاروا الى مسؤولية إيران عن ذلك الهجوم بقي يكرر عزوفه عن المواجهة المسلحة وآماله بالتفاوض قائلاً: “أعلم أنهم يريدون ابرام صفقة.” كان من قبل ذلك قد قال أن أي رد فعل انتقامي على ذلك الهجوم سوف يعتمد على قرار من جانب السعودية، التي ارجأت المسألة بأن دعت الأمم المتحدة الى اجراء تحقيق.يقول علي بغديلي، وهو محلل سياسي من طهران، متحدثاً عن ترامب: “إنه ارنب وليس اسداً، وتصرفه هذا سوف يعطي إيران دفعة قوية.” ثم يمضي مضيفاً أن هذا الهجوم، أياً تكن درجة مساهمة إيران فيه، هو واجهة عرضت إيران من خلالها مدى قوتها وسعة نفوذها.
نفت إيران مسؤوليتها عن الهجوم وادعى الحوثيون، وهم فصيل يمني تدعمه إيران، المسؤولية عنه. ولكن الضربات اثبتت أوضح من أي وقت مضى أن القوات الايرانية، او المتعاونين معها اقليمياً، لديها القدرة على تهديد شركاء أميركا وامدادات النفط العالمية حتى وهي تعاني تحت طائلة العقوبات.
يقول “مايكل نايتس”، وهو باحث من معهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى: “لقد اثبتت الدفاعات الجوية السعودية أنها عديمة الجدوى على الاطلاق، وهم لن يكونوا مهيئين للجولة الثانية.”
ابدى بعض المسؤولين الإيرانيين شيئاً من التبجح عقب الهجوم حين تحدثوا عن قدرة الضغط التي اكتسبوها. فقد كتب محمد إيماني، وهو ستراتيجي عسكري ينتمي الى الحرس الثوري، على موقعه يقول: “إيران لم تستخدم بعد كل اوراقها الرابحة في حرب النفط مع الولايات المتحدة والسعودية.”
 
موقف أوروبي وسط
كذلك لا يبدو أن المسألة قد كلفت إيران ثمناً على الصعيد الدبلوماسي، كما تقول “إيلي جيرنمايا” وهي باحثة في الشؤون الايرانية لدى المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية. تقول أن القوى الأوروبية تنحي باللوم على الرئيس ترامب لأنه ابتدأ التصعيد الذي ادى الى هذا الهجوم حين سحب الولايات المتحدة من اتفاقية العام 2015 التي وقعتها القوى العالمية الكبرى مع إيران بحيث ترفع العقوبات عن إيران بموجبها مقابل فرض قيود محددة على برنامجها النووي.
بعد خروجها من الاتفاقية خلال العام الماضي أعادت إدارة ترامب فرض العقوبات على مبيعات النفط الإيراني ضمن محاولة للفوز باتفاقية نووية أكثر الزاماً وتقييداً ولكن القوى الأوروبية، والتي هي معارضة للعقوبات الأميركية ومتشبثة بأمل انتشال اتفاقية 2015، واصلت بذل المساعي لطرح حلول تخفف آثار العقوبات.
مؤخراً اقترح الرئيس “إيمانويل ماكرون” خط اعتماد بمبلغ 15 مليار دولار لحث إيران على البقاء ملتزمة بالصفقة، آملاً كما يبدو في عودة الولايات المتحدة اليها هي الأخرى، ربما بعد أن تأتي الانتخابات برئيس جديد. ولم تصدر عن أي من القوى الأوروبية الاخرى اشارات تنم عن نيتها على التخلي عن الجهد
 الدبلوماسي.
تطرح السيدة جيرنمايا حجة مفادها أن الهجوم على منشآت النفط السعودية كان “إطلاقة تحذير” حسب تعبيرها مدروسة بحيث تسفر عن تعزيز قدرة إيران على الضغط في اي مفاوضات مقبلة مع السيد ترامب والقادة الأوروبيين. أو ربما يكون القصد منها حث الأوروبيين على الاسراع بعد أن مل الايرانيون ونفد صبرهم من بطء تحرك الدبلوماسية الاوروبية.يقول الباحثون والمتخصصون أن في إيران قيادات قوية النفوذ كانت تتمسك منذ وقت طويل بوجهة نظر تقول أن صانعي القرار الأميركيين لا يفهمون سوى لغة التهديد باستخدام القوة. رغم هذا بقيت إيران ملتزمة ببنود الاتفاق النووي حتى بعد مرور عام على تخلي ترامب عنه وتريثت دون ابداء اي رد انتقامي، وهي سياسة أطلق عليها وصف “الصبر الستراتيجي”.
لم يفز الإيرانيون من صبرهم ذاك بطائل، بحسبما يراه المحللون، كما فشلت مساعي الأوروبيين الأولية لإقناع واشنطن بالعودة الى الصفقة في تحقيق شيء. 
ومن جهة أخرى، كان حلفاء أميركا؛ مثل: اسرائيل والسعودية والامارت العربية؛ وكلهم خصوم لإيران، يحثون واشنطن على تصعيد الضغط تجاه طهران.
 
سلاح النفط
على اثر ذلك بدأت ادارة ترامب باستخدام سطوة النظام المالي الأميركي العالمي لمحاولة منع مبيعات النفط الأميركي في اي مكان من العالم، وبذلك قطعت شريان الحياة بالنسبة للاقتصاد الإيراني.رداً على ذلك، اطلقت إيران ستراتيجية مزدوجة. فعلى مستوى العلن بدأت باتخاذ خطوات محسوبة بدقة لتخطي الحدود التي تفرضها عليها صفقة العام 2015 النووية متذرعة بفقرات معينة في الاتفاقية على اساس أنها تبرر عدم التقيد.في الوقت نفسه توصل المسؤولون الغربيون الى أن إيران قد بدأت بمحاولات لإثبات قدرتها على تهديد اسواق النفط العالمية، لكي ترغم الاخرين على تحمل نصيب من الألم الاقتصادي.بالاضافة الى الهجمات على ناقلات النفط، التي يقول المسؤولون الأميركيون أن القوات الايرانية هي التي نفذتها باستخدام الغام بحرية، قامت إيران باحتجاز بضع سفن من بينها ناقلة نفط تحمل العلم البريطاني، احتجزتها على ما يبدو كرد ثأري على احتجاز القوات البريطانية ناقلة نفط إيرانية قرب جبل 
طارق.لم تتحمل إيران تبعات تذكر بسبب أفعالها، كما احجمت الولايات المتحدة عن ابداء اي رد انتقامي على تخريب ناقلات النفط. بعد ذلك أفرج المسؤولون البريطانيون في جبل طارق، وهي منطقة بريطانية، عن السفينة الايرانية المحتجزة خلال الشهر الماضي، رغبة منهم في التخفيف من سخونة الموقف، وأخذت القوى الأوروبية تعجل من مساعيها لأجل التوصل الى تخفيف العقوبات والمحافظة على اتفاقية 2015 
النووية.
 
تبدل موقف الامارات
حتى الامارات العربية بدا عليها التراجع للدخول في صراع، حيث امتنعت عن توجيه اللوم الى إيران علناً في مسألة تخريب الناقلات داخل مياهها. بدلا من هذا أجرى المسؤولون الاماراتيون محادثات مع إيران تتعلق بالأمن البحري، وفي الوقت نفسه باشرت الإمارات بالانسحاب من التحالف الذي يخوض الحرب ضد الحوثيين في اليمن بقيادة السعودية.
تقول “سنم وكيل”، وهي باحثة في شؤون إيران والخليج من مؤسسة جاثام هاوس وتتخذ من لندن مقرا لها، أن الإمارات قد أفاقت وتنبهت لحقيقة انكشافها أمام الخطر. ومع صدور الاشارات من جانب الإمارات برغبتها في تجنب مزيد من التصعيد، وفق ما تقوله وكيل، أصابت إيران اول نجاحاتها نحو الهدف الذي تسعى اليه وهو تفتيت التحالف المضاد لها في 
المنطقة.تقول وكيل: “ها هي الإمارات تنفصل، وستكون السعودية هي التالية.”
تعتقد وكيل أن الإيرانيين قد استنتجوا من السلوك الأميركي خلال الفترة الأخيرة على ما يبدو أنهم لا يمكن أن يخرجوا خاسرين من هذه المواجهة. فمن شبه المؤكد أن حتى الإجراء الأميركي المحتمل سوف يكون مجرد ضربة محدودة وموزونة بحيث لا تتطور الى حرب برية طويلة. مجابهة هذه الضربة والثبات لها سوف يقوي وضع الحكومة الإيرانية الحالية داخلياً واقليمياً لأنها ستحشد الرأي العام لصالحها.
تختتم وكيل حديثها بالقول: “انهم يتحدون الهيمنة الأميركية ويجبرون المجتمع الدولي على تقبل فكرة إقامة علاقات جديدة مع الجمهورية الاسلامية، وهم يواصلون التقدم الى ما يريدون رغم كل شيء.”