الفنان ( ناصر عساف) يلزم نفسه في اقتناص اللقطات المؤثرة في الحياة اليومية . فقد أنجز مجاميع من الصوّر الفوتوغرافية ، شمل فيها ظواهر اجتماعية عديدة، لعل نماذج الأرصفة واحدة من الاهتمامات المهمة . كما وأنه اهتم بشريحة تنتمي إلى فئة الرصيف ، وهم نماذج المطرودين من مجالهم في الحياة .والطرد تتشعب قيمته ، أي أسبابه . لكنها في النتيجة تتموّضع ضمن الاهمال الاجتماعي والضغط غير المبرر من القوى المتنفذة .
وقد لاحظت في سياق الحياة أن ثمة مطرودين قسراً في مستشفى الرشاد في بغداد . هؤلاء الشريحة التي تطبعت على مكان الطرد ، واعتبرته بحكم الُلفة معه دار البقاء . ونماذج(العساف) اتخذت لها مكاناً لا شرقيا ولا غربياً ، بل أنه ضمن فضاء مفتوح ، افترض المطرود أنه دار بقاء ، فعمل على تأثيثه بعد تشييد من نفايات البيئة .حكاية النموذج كانت لها مسببات موضوعية للطرد ، فهو لم يختر غياب سيطرة العقل ، وإنما فرضته حال ما استطاعت أن تُرحّل السيطرة على فعالياته . فاضمحلا سيطرة العقل على فعاليات الجسد ، كانت خير ملاذ اختاره النموذج كي يأوي إليه . تقول الحكاية عبر الصوّر المتعددة ؛ إنه بدأ مستقراً في اختيار البقعة التي يسكنها ، ودأب على تجميع ما من شانه الايواء . فكان المكان وكان الزمان . فهو كالإنسان الأول حين اختار الكهف . منزل النموذج مركب من مواد متروكة ، تركتها ذائقة الإنسان، لأنها غير مفيدة ، والنموذج من جعلها مفيدة بحكم وظيفتها الجديدة .إذاً كان يدرك ضرورة بذل الجُهد لتحويل وظائف المهمل . وهذا بطبيعة الحال نوّع من التعبير عن العقل ، وإن كانت النظرة الاجتماعية إزاءها مختلفة ، وتوصيفها بالجنون والخبل والضياع .لكن النموذج خلق من ضياعه وجودا جديدا ، يستمرئ وجوده ، ويألف جديده ، لأنه يوّفر له الأمان من تصرفات الآخر .هذا هو متن الحكاية التي حقق رويها فوتوغرافيا الفنان ،محققاً بذلك منجزاً يُضاف إلى ما حققه من قبل وهو يرصد حياة
المطرودين .
البنية الفنية للصورة
تنتمي مجموعة الصوّر التي التقطها الفنان إلى فن البورتريت . وبهذا التوّجه كان لزاماً عليه أن يتخذ من اختيار زاوية اللقطة الأهم في رصد حياة النموذج الذي يتميّز بمزاج يفرضه عليه طبيعة غياب السيطرة على عقله. فهولا يفكر كإنسان سوي ، لكنه سوي بمنطق وجوده وقناعاته ، فمرضه فرض عليه قناعات رافقت ونمت ضمن وجوده الإنساني .من هذا تكون تقلبات مزاجه حالة تفرضها عليه غياب انتظام منظومته التي تُعيّن الأشياء وتوّضح صورتها له . فهو بهذا عشوائي التصرف ، وربما عدواني التصرف دفاعاً عن وجوده. من هذا يتوّجب النظر إلى أي نموذج من اللقطات بمنظار نفسي مختلف ، لأننا بصدد رص المعنى الذي يُحققه البورتريت حصراً ، باعتباره فن دراسة الشخصية عبر كل مكوّنات القسم العلوي من الجسد ، وحصراً الوجه ، الذي هو مركز العطاء النفسي للإنسان .إذ تدفعه كل التصرفات الجسدية بنتائجها نحو تشكيلة تقاسيم الوجه . فالمتحقق الفني للقطة مرتبط جدلياً بالطبيعة الإنسانية .فنحن إزاء معنى لظاهرة ومعنى للفن . فهما متلازمان تماماً ، ولا فكاك بينهما ، لأن كل واحد بمثابة نتيجة للآخر .
في اللقطة (1)
تأتي براعة الاختيار للقطة من نوع التوزيع للضوّء والظِلْ ، فهما أبجدية الصورة الفوتوغرافية . ولما كان التصوير بالملوّن فإن الضوء والظل يكمنان في الدرجات اللوّنية التي تُحدد الأجزاء والكليات . لذا نجد أن عيّن الكاميرا رصدت الحالة السيكولوجية التي عليها المطرود ، في كوّنه وضمن وضعه في مكان الطرد المنعزل عن الوجود الاجتماعي ، إلا أنه ووفق معطيات تقاسيم الوجه ونظرات العينين ، إنه يرسل رسالة تكمن فيها عناصر كثيرة منها( الوجع المضمر ، القناعة في ما هو عليه ، التحديق بلا مبالاة ، نقد ما يرى وفق استرخاء جسدي) هذه الحالات شكّلت نوعاً من ظاهرة الاعتزاز بالذات التي يتحلى بها النموذج . فهو ذو قناعة في الاختيار الذي هو في حقيقته طرداً ، من مبدأ أن لكل إنسان مأوى ، وعلاقات أُسرية واجتماعية . ولما كان كل هذا مضمحل ، بل ممحو ، فهو مطرود في المقياس العام للوجود . إن القناعة التي توّفرت للنموذج متأتية بقبول الحال ، لأنه يُعطي له فسحة من الحرية في التصرف والعيش دون مزاحمة الآخر . العزلة هنا علاج نفسي للكائن الذي حُرم من مجاله الحقيقي، الذي هو ضمن قانون الإنسانية فرض وجودي .
تجسد اللقطة (2)
عدّة مرامي ممزوجة مع بعض . وهذه المرامي اجتمعت كي تُحقق مرمى مركزي واحد . لعل البداية منها في اختيار زاوية اللقطة ، ففيها اختيار نوّعي ، ذلك راعت عين الكاميرا فضاء الزاوية ، وسطوع أشعة الشمس من جهة ، وموازنات ذلك مع ظهور النموذج على أناقة ،منها تشذيب شعر الرأس والذقن من جهة أُخرى. والظهور في شوارع المدينة .هذا على صعيد امتزاج كيفيات نجاح اللقطة وتميّزها بالمقياس العام ، لكن في الجانب الفني ، فقد وجدنا الفنان قد ركز بمهارة عالية وتقنية فنية مكثفة على فعالية الضوّء والظِلْ ، لاسيّما على تقاطيع الوجه . فقد ظهرت على صفاء واكب مظاهر الأناقة العامة للجسد والوجود المادي للنموذج .إن فعالية الضوّء والظِلْ هنا تؤكد نوع الاحساس النفسي عند النموذج ، بمعنى ظهر على توازن حسي وتغيّر جديد . أي أنه استعاد التركيز وظاهرة التأمل في الوجود . فهو قد أخفى مظهره الذي أضافه له الطرد ، وأعاد لهيئته المعنى الحقيقي لوجوده . إن التغيير وإن ظهر مجتزأً إلا أنه كاف لعكس الظاهرة النفسية ، فالعري كامن في الذات، لأنه يشكل موقفاً فلسفياً ، لا يتميّز النموذج هذا ، بل ميّزة الكثيرين الذين انقطعوا للعبادة والتأمل في الوجود كالمتصوّفة ، فهم يتجردون من مباهج الوجود المضافة لوجودهم العقائدي والنفسي ، وماظهورهم على حالة التقشف ، إلا انعكاس للقناعة والتوازن مع تأملاتهم بدافع بناهم الفكرية .ونموذج الصورة هنا من هذا النوع الذي يجد في ذاته خصائص مختلفة ، لكنه يعتز بوجوده وسط مكان
العُزلة .