احتجاجات شعبيَّة تعصف بدول العالم.. لكن ماذا بعد؟

بانوراما 2019/11/05
...

ترجمة: ليندا أدور  مايكل صافي
 
يبدو أن الاضطرابات انتشرت في كل مكان، وهنا نبحث في بعض الأسباب التي دعت لذلك وطرق التعامل معها في كل من هونغ كونغ ولبنان والعراق وتشيلي وكاتالونيا. ففي لبنان، تظاهر الشعب احتجاجا على فرض ضريبة على خدمة مكالمات "واتساب" والتنديد بالفساد المستشري، وفي تشيلي، خرجت الاحتجاجات بعد الزيادة في أجرة المترو وتفشي عدم المساواة، أما في هونغ كونغ، جاءت التظاهرات احتجاجا على عزم الحكومة اقرار مشروع لتسليم المجرمين والمطلوبين فضلا عن زحف السلطوية، وفي الجزائر، كانت الولاية الخامسة التي يسعى اليها  رئيس مسن وعقود من الحكم العسكري سببا للاحتجاج .  

الموجة الثانية
ان الاحتجاجات التي تأججت، اليوم ومنذ الأشهر الماضية، في شوارع لمدن بعموم أنحاء العالم وبدوافع مختلفة، بدت أسباب شرارتها متشابهة، وهو الركود الذي أصاب الطبقات الوسطى والديمقراطية الخانقة، والقناعة العميقة بأن يمكن للأمور ان تكون مختلفة، حتى وان كان البديل غير واضح على الدوام. 
بناء على ذلك، لم يسلم سوى القلة القليلة من زوايا العالم من الاحتجاجات الكبيرة خلال العام  2019، اذ شهدت روسيا وصربيا وأوكرانيا وألبانيا، تظاهرات كبرى، كذلك كانت المملكة المتحدة في صراعها ضد "بريكست"، وواجهت فرنسا حركة اصحاب السترات الصفر، وفي اسبانيا، حدثت الاضطرابات بمنطقة كتالونيا. اما منطقة الشرق الأوسط، فقد عصفت بها مظاهرات معارضة بشدة الى الحد الذي أطلق عليها البعض "الموجة الثانية من الربيع العربي"، وكذلك أميركا الجنوبية، حيث شهدت دول البرازيل والبيرو والاكوادور وكولومبيا وفنزويلا اضطرابات شعبية والقائمة تطول. 
تقول جاكلين فان ستيكلينبرغ، استاذة التغيير الاجتماعي والصراع بجامعة فريجي بامستردام: "تظهر البيانات بأن حجم الاحتجاجات، ومنذ العام 2009، نحو تصاعد وتكاد تكون بمستوى صخب تلك التي حدثت خلال ستينيات القرن الماضي"، لكن، لم تكن الاحتجاجات كلها بدافع العوز الاقتصادي، فكان اتساع الهوة بين الأثرياء والفقراء عاملا يزيد من تشدد الشباب، بشكل خاص، عبر مواقفهم تجاه حكوماتهم.
 
ديمقراطية تشاركية
في كانون الثاني الماضي، ذكرت منظمة أوكسفام بأن أغنى 26 شخصية على مستوى العالم يملكون ثروة تعادل ما يملكه نصف أفقر سكان العالم. وقام المليارديرات بتنمية ثرواتهم مجتمعة بمعدل مليارين ونصف مليار دولار لليوم الواحد على مدى العام 2018، في الوقت الذي كانت فيه الثروة النسبية لأفقر سكان العالم والذي يبلغ عددهم أقل من أربعة مليارات شخص قد تراجعت بمقدار 500 مليون دولار لليوم الواحد. 
لقد انضم الآلاف من الناس الى الاحتجاجات المتجددة تحت قيادة حركة "تمرد ضد انقراض الثورة"، بسبب عدم اتخاذ قادة الدول موقفا تجاه أزمة المناخ وترك القضية الى الجيل المقبل. يذكر أن الانترنت لم يكن عاملا محددا في اندلاع الاحتجاجات، إذ لم تكن هناك وسائل للتواصل الاجتماعي خلال حقبة السينيات من القرن الماضي، لكن بدا أنه هام جدا. اليوم، حيث تعيد وسائل التواصل الاجتماعي والانفجار الذي حصل في سهولة الوصول الى المعلومة، ترتيب التسلسل الهرمي للمعرفة والتواصل.
ينوه المحللون بأنه يمكن للسلطات أن تـــقاوم ذلك من خلال استخدام أنظمة الرقابة الشاملة أو عن طريق التعتيم الرقمي كالذي اتبعته الهند مؤخرا في كشمير المتنازع عليها، لكن هياكل السلطة في القرن العشرين كانت تتعرض لضغوظ هائلة، وفقا لرأي المحللين.
وعن هذا الشأن، يقول تيري دي مونبريريـال، من المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية: "ان النظام التقليدي لفرض القوة من أعلى الهرم الى أسفله، يواجه تحديا وبنحو متزايد"، مضيفا: "هناك ثورة اجتماعية مع تنامي الطلب على الديمقراطية التشاركية". 
وسط عالم رقمي ومعولم، يبدو أن من السهل معرفة كيف يعيش النصف الآخر. فترى فان ستيكلينبرغ أنه: "ليس هناك فقط تدفقات جديدة للمعلومات، بل وللأشخاص كذلك، فعموم شباب  الربيع العربي، يعرفون شخصا واحدا، على الأقل، يعيش في الخارج، وهذا ما يخلق لديهم نوعا من الحرمان النسبي، ليقول الفرد منهم: "أريد أن أحصل على هذا أيضا". 
 
تظاهرات بلا زعامة
بدوره، يشير المحلل السياسي وأحد مؤلفي أبحاث مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي الجديدة بشأن نجاح حركات الاحتجاج، يوسف الشريف، الى إن انتشار التظاهرات ليس ضمانة بأن الامور ستتغير: "القيام بتظاهرة لم يعد أمرا صعبا" مضيفا "لكن المشكلة تكمن في ما يتوجب فعله بعدها، وكيف تعبر عن وجهة نظرك وتحقق الأهداف التي تتظاهر من أجلها، وهذا هو الجزء الأصعب فيها".
يقول الشريف ان التظاهرات والثورات تحددها شعاراتها المثالية، لكن التغيير المنهجي عمل أكثر صعوبة: "يمكنك اسقاط جزء من النظام لكن من الصعب للغاية أن تسقط النظام بأكمله، والذي يضم مؤسسات وشبكات يصعب تفكيكها". يقول سانجوي تشاكرافورتي، استاذ الدراسات العالمية بجامعة تيمبل، بأن: "طبيعة العديد من التظاهرات أن تكون بلا زعامة، ما يشكل صعوبة على الحكومات قمعها، لكنها يمكن ان تحد من ديمومة الحركات ذاتها، فالحركات التي تؤدي بالفعل الى التغيير، او تلك التي تعتبر أكثر ديمومة، لديها قاعدة، وبناء قيادي وأشخاص تعبر عن نفسها وتنظيم وإصرار على تشجيع الناس على التظاهر، ان مسألة القيادة أمر جوهري، وهو الشيء الذي لم يتم تشخيصه الى الآن، فكيف يمكن بالفعل ايجاد قيادة وسط كل عروض الغضب هذه". 
بالنسبة لهونغ كونغ، كان جل المتظاهرين هم من الشباب، الكثير منهم من طلبة الجامعات أو المدارس الثانوية، وانضم إليهم أشخاص من عموم المجتمع، ومن مختلف القطاعات والفئات العمرية. والحقيقة أن تعديلا على مقترح قانون تسليم المجرمين الذي يسمح بنقل المشتبه بهم الى الصين لتتم محاكمتهم أمام محاكم يسيطر عليها الحزب الشيوعي كان هو سبب الاحتجاج. وبعد سحب مشروع القانون، خرج المحتجون، الآن، بتظاهرة ضد ما يزعمون من وحشية الشرطة ومناهضة الحكومة فيما يخص تعاملها مع الأزمة. وعلى نطاق أوسع، هم يعارضون النفوذ الصيني المتزايد هناك.
 
شرارة الاحتجاجات
اما عن كيف تفاعلت سلطات المقاطعة معهم، فقد ألقي القبض على أكثر من الفي شخص، كما اتبعت قوات الشرطة اجراءات أكثر صرامة لاخماد التظاهرات، كاستخدام الغاز المسيل للدموع ومدافع المياه التي تصبغ الاشخاص باللون الأزرق مخلوطة بمحلول الفلفل، وكانت هناك بعض الحالات التي استخدم معها الرصاص الحي. وقد رفضت السلطات العديد من الطلبات التي تقدمت بها مجموعات المجتمع المدني لإقامة تظاهرات حاشدة، فضلا عن ان قانون الطوارئ الذي وضع منذ زمن الحقبة الاستعمارية يمنع الناس من ارتداء أقنعة الوجه أثناء الاحتجاجات. 
واليوم وبعد مرور خمسة أشهر، بدأ عدد المشاركين بالاحتجاجات بالتناقص، لكن، حالة الاضطراب تلك لا تشير، ولو قليلا، الى قرب انتهاء الاحتجاجات، اذ تعهد المتظاهرون المتشددون بمواصلتها حتى تلبية جميع مطالبهم. أما لبنان، فيبدو أن احتجاجاتها مثلت شريحة واسعة من مجتمع تسوده الانقسامات الدينية والسياسية. وكان البلد قد عانى من حرب أهلية استمرت 15 سنة منذ العام 1975. يشار الى أن أقل من مليون ونصف مليون شخص يمثلون ما نسبته 20 بالمئة من سكان لبنان، قد شاركوا بأكبر تظاهرات. 
وكان سبب تلك الاحتجاجات يكمن في أن الحكومة، التي هي ائتلاف غير مستقر، بدت منقسمة ومختلة وظيفيا، غير راغبة أو غير قادرة على استثمار طرق البلاد المتهالكة، أو تحديث الشبكة الكهربائية، وإصلاح نظام جمع النفايات ومعالجة مشاكل البطالة المتفاقمة بين الشباب، الى جانب قضايا أخرى. كانت أحدى شرارات الاحتجاجات الأخيرة، وهو اعلان الحكومة فرض 20 سنتا كضريبة على مكالمات "واتساب"، كجزء من  مجموعة من سياسات تقشفية هدفها السيطرة على عبء الدين العام المرتفع.
لكون مجلس الوزراء الحاكم مكون من مجموعة متوازنة من الأحزاب السياسية الطائفية، ومن غير الممكن أن تتحدث الحكومة بصوت واحد عن الاحتجاجات. وبشكل عام، حاول القادة السياسيون عبر أطيافهم ابداء التعاطف مع المحتجين لكنهم دافعوا عن النظام العام ودعوا الى استعادة الهدوء، وقبل اعلان رئيس الوزراء سعد الحريري استقالته مؤخرا كان مجلس الوزراء قد وافق على حزمة من الاصلاحات من بينها خفض رواتب النواب الى النصف. كما سجلت محاولات لمسلحين لترهيب المتظاهرين، فضلا عن استخدام الجيش للغاز المسيل للدموع، لكن سمح للحركة السلمية بالاستمرار حتى في حال أدت الى بعض قطوعات الشوارع لتحول أجزاء واسعة من المدن الى حفلات ورقص.
هناك احتمال بأن تنبثق من الشوارع، هوية جديدة وموحدة للبنان، الى جانب وجود مخاوف من ظهور الانقسامات السياسية والدينية العميقة من جديد عبر بعض أعمال العنف الطائفي. لذا فان حركة الاحتجاجات غير القيادية لم تكن تملك قائدا أو أجندة واضحة، وبعد استقالة الحكومة، من غير الواضح أيضا من الذي سيحل
محلها.
 
قصر نظر السياسيين
بالذهاب الى سانتياغو عاصمة تشيلي، بدأت الاحتجاجات هناك كتمرد قاده الشباب، وما زال الطلاب في قلب الحركة، ومع انتشار العصيان الى بلدات ومدن خارج العاصمة، انضم اليها مواطنون من مختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية، وكانت معظمها سلمية، لكن وقعت عمليات نهب وحرق عمد استهدفت مراكز التسوق ومحطات قطار الأنفاق والمباني الحكومية ومقر احدى الصحف المحافظة.
كان اندلاع التظاهرات قد ردا على ارتفاع أسعار تذاكر المترو، وبحلول منتصف تشرين الأول الماضي تدفق طلاب المدارس الثانوية الى أنفاق المترو كجزء من حملة لتجنب دفع سعر التذكرة، والتي صممت للضغط على الحكومة لالغاء الزيادة، ومنذ ذلك الحين، تحولت الاحتجاجات الى صراع أشمل ضد عدم المساواة، ونقص الخدمات العامة وضعف الأجور والقمع
الحكومي.  كانت ردة فعل الرئيس، سبستيان بنييرا، اليميني المعتدل، لا هوادة فيها، فقد أعلن مؤخرا، عن فرض حالة الطوارئ وأمر بنشر الآلاف من الجنود في شوارع سانتياغو، ثم عاد ليعلن بأن تشيلي تحت "حالة حرب" مع عصابات من منحرفة من "الأشرار"، المصرين على إحداث الدمار. 
واعتقل أكثر من 2600 شخص ولقي 15 آخرين مصارعهم، أربعة منهم على يد القوات الأمنية. يشير النقاد الى أن المواقف المتشددة قادت الى إشعال الوضع، ويبدو أن بنييرا قد فهم الأمر، فبدأ بإتباع أسلوب ناعم من خلال لقائه زعماء المعارضة والقاء خطاب متلفز كشف خلاله عن سلسلة من السياسات الاجتماعية الجديدة من بينها زيادة طفيفة على الحد الأدنى للأجور، مقدما اعتذاره عن "قصر نظر" قادة تشيلي من السياسيين. 
يبدو من غير الواضح ان كانت محاولة بنييرا للحد من تصاعد الموقف قد تؤتي ثمارها، لكنه يأمل ذلك، اذ من المقرر أن تحتضن بلاده قادة العالم، بضمنهم الأميركي دونالد ترامب والصيني شي جين بينغ، لحضور قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ خلال الأيام 
المقبلة. 
 
مواجهات كتالونية
أما اقليم كتالونيا، فمعظم المحتجين فيه الذين إتجهوا الى شوارع برشلونة وبلدات ومدن كتالونية أخرى، هم من الشباب بسن المراهقة والعشرينيات من العمر. 
جذبت التظاهرات (التي كانت معظمها سلمية) مختلف الفئات العمرية بدءا من الأطفال الى كبار السن والمتقاعدين. وتصاعدت حدة التوترات داخل المقاطعة بعد أن حكمت المحكمة الاسبانية العليا على تسعة من القادة الانفصاليين الكتالونيين بالسجن لمدد تتراوح بين 9 و13 عاما، بتهمة إشعال الفتنة والتحريض على الانفصال وسوء استخدام المال العام والتحريض على محاولة الاستقلال الفاشلة قبل
سنتين.  
وقعت الكثير من المواجهات العنيفة بين عناصر الشرطة والمحتجين حيث هوجم ضباط الشرطة بالحجارة والقناني الفارغة وقنابل المولوتوف والمقاليع، فيما تعرض المتظاهرون للضرب واطلاق الرصاص المطاطي والرغوي. على إثرها، تلقى نحو 600 شخص العلاج الطبي اللازم، ولا تزال حالة اثنين منهم (ضابط شرطة ومتظاهر) حرجة، فيما تم اعتقال أكثر من 200 آخرين. 
ذكرت حكومة مدريد بأن اولوياتها تتمثل بحفظ النظام العام، واصفة استجابتها للتظاهرات بأنها مناسبة، مشيرة الى التعاون بين ضباط الشرطة الوطنية ونظرائهم من الكتالونيين بانها فعالة، رافضة دعوات الاحزاب اليمينية للسيطرة على جهاز الشرطة الكتالوني او الاستناد الى الدستور لتنفيذ الاحكام المباشرة. لكن استجابة الشرطة كانت موضع انتقاد شديد من قبل البعض، متهمين إياها بالاستهداف العشوائي للمارة الأبرياء والعاملين بوسائل الاعلام.  سارت الأمور نحو التهدئة بعد أن وصلت الى ذروتها، ودعا رئيس اقليم كتالونيا، كيم تورا، الى اجراء مباحثات مع الحكومة الاسبانية، مهددا بالتظاهر ضد قرار المحكمة العليا من خلال اجراء استفتاء أحادي آخر حول استقلال الأقليم. وحتى بعد خفة حدة التظاهرات، تبقى مسألة كتالونيا ستبقى قضية جوهرية في الانتخابات الاسبانية العامة التي ستجري قريبا.
 
تظاهرات العراق
في العراق كانت الاحتجاجات التي اندلعت مطلع الشهر الماضي بلا زعامة، بمشاركة عالية من الشباب والعاطلين عن العمل الذين ترتفع نسبتهم بين فئات المجتمع فيما يعاني نحو ربع السكان  الفقر. 
فبعد عقود من العقوبات المفروضة عليه والاجتياح الاميركي وحروب داخلية بضمنها الحرب ضد تنظيم داعش الارهابي، ضعفت البنية التحتية، وافتقرت البلاد الى الخدمات العامة رافقها كفاح من أجل إعادة بناء اقتصاد البلاد. الى جانب ذلك كله، تفشى الفساد بدرجات كبيرة، وهي المشكلة التي لم تحاول الأحزاب السياسية تغييرها، فجاءت التظاهرات غاضبة ضد النظام. ووصفت الأمم المتحدة مقتل نحو 150 شخصا خلال خمسة أيام من الاحتجاجات، والتي كانت الأكثر حدة، بأنه "خسارة أرواح لا معنى لها".
يذكر أن رئيس الوزراء عادل عبد المهدي وعد بإجراء إصلاحات وإعادة تشكيل كابينته الحكومية ضمن محاولة للبحث عن حلول ترضي المحتجين.