فرق الموت الشيشانية تجوب أوروبا

بانوراما 2019/11/11
...

شون وولكر
ترجمة: خالد قاسم
يحكم رمضان قديروف جمهورية الشيشان بالخوف والاضطهاد، وسط تقارير عن حالات تعذيب. لكن هؤلاء الباحثين عن اللجوء في أوروبا ليسوا بأمان، لأن القتلة يطاردونهم. عاش زليمخان خانغوشفيلي فترة طويلة تحت وضع خطير، ونجا من سنوات الحرب غير النظامية ضد القوات الروسية في الشيشان خلال بداية القرن الحالي، ونجا من محاولة اغتيال وسط العاصمة الجورجية تبليسي، سنة 2015، إذ أصابته رصاصات بذراعه وكتفه. ونجا من محاولة أخرى في أوكرانيا عندما حصل على معلومة بشأن هجوم آخر مما دفعه للاختباء، وأخيرا وصل ألمانيا بحلول نهاية العام 2016 وتنفس قليلا من الراحة.
لكن زليمخان واجه الموت رغم وجوده وسط أوروبا خلال شهر آب الماضي بعد وقت قصير من مغادرته منزله متجها الى المسجد عندما اقترب منه رجل وأطلق عليه النار مرتين نحو منطقة الرأس، ومات على الفور.
التزم المشتبه به بالصمت حتى كتابة هذا التقرير، واعتقلته الشرطة بعد فترة وجيزة من رؤيته وهو يرمي باروكة شعر مستعار ومسدسا في النهر. وسافر القاتل بجواز سفر روسي يبدو أنه صادر بهوية مزورة، ما يعزز الشكوك بصدور أوامر القتل من أجهزة الأمن الروسية، أو زعيم الشيشان المدعوم من الكرملين.
أيا كان من أصدر الأمر، فهذه الجريمة أكدت مجددا الوضع المحفوف بالمخاطر لآلاف الشيشانيين داخل أوروبا، ويخشون العقاب في وطنهم، لكنهم غير قادرين على كسب حق اللجوء. ورفضت ألمانيا طلب لجوء زليمخان وعائلته، وتجاهلت طلبا لمنحه الحماية بسبب تهديدات على حياته. وكان زليمخان الأخير ضمن قائمة حوادث قتل وقعت خلال العقد الماضي، اذ قتل رموز الانفصال وخصوم قديروف حيثما تواجدوا.
 
دولة بوليسية
شهدت فينا أواسط العام 2009 اغتيال عمر عزرائيلوف، الحارس الشخصي السابق لقديروف، بعد انتقاده علانية الزعيم الشيشاني. وقتل خلال العام نفسه منافس سياسي لقديروف في دبي حيث اتهمت الشرطة المحلية سياسيا شيشانيا مقربا من قديروف بتجهيز سلاح الجريمة. وكانت اسطنبول مسرحا لمقتل عدة شخصيات شيشانية بارزة خلال السنوات العشر الماضية، اذ تعتقد السلطات التركية بتورط أجهزة الأمن الروسية. 
أما أوكرانيا حيث انضم شيشانيون للكتائب المتطوعة المقاتلة فيها ضد القوات المدعومة من موسكو، فشهدت مقتل سيدة شيشانية مقاتلة تدعى أمينة أوكوييفا بواسطة كمين لسيارتها سنة 2017، وأصيب زوجها وقائد الكتيبة آدم عثمانوف بجراح. 
وكان الزوجان قد تعرضا سابقا للاستهداف من قبل قاتل مأجور شيشاني إدعى أنه صحفي فرنسي من صحيفة لوموند وجاء لاجراء مقابلة معهما.
لقد تحولت الشيشان تحت قيادة قديروف الى إحدى أسوأ دول العالم في مجال حقوق الانسان، ورمضان هو إبن مقاتل انفصالي سابق غير ولاءه، واستخدم الأموال الروسية لاعادة بناء جمهوريته من أنقاض الحرب ونال حرية الحكم مقابل اعلانه الولاء لفلاديمير بوتين. ونفذت قواته الأمنية خلال السنوات الماضية ملاحقات خارج إطار القضاء لنطاق واسع من الأشخاص والجماعات، مثل المسلحين والمنتقدين للحكومة، ومن يطيلون لحاهم بطريقة مرفوضة وغيرهم. 
على العكس من زليمخان، أغلبية الشيشانيين الواصلين الى أوروبا ليست لهم علاقة بالتمرد السابق، وإنما تمكنوا من الهرب بسبب تهديدات بالقتل والتعذيب، تاركين منازلهم خلفهم. لكنهم على غرار زليمخان يعانون من عدم الحصول على لجوء سياسي وسط عداء أوروبي متزايد للهجرة، وخصوصا عندما يكون المهاجرون من
المسلمين.
يقع الاف الشيشانيين أسرى فراغ قانوني في ألمانيا وبولندا ودول أوروبية أخرى ويواجهون خطر الترحيل الى روسيا، مع أنهم يمتلكون مبررات اللجوء المتعارف عليها، من قبيل: ضحايا التعذيب ووجود تهديدات حقيقية على حياتهم وعوائلهم. 
وبعد اجتيازهم رحلة شاقة الى غرب أوروبا، يحرمون من اللجوء ويعتبرون مهاجرين اقتصاديين أو متطرفين اسلاميين محتملين ويطلب منهم العودة الى بلادهم.
تبدأ محنة هؤلاء من بلدة برست البيلاروسية التي تقع قرب الحدود مع بولندا، وهي أقرب مكان يدخل عبره الشيشانيون الى الاتحاد الأوروبي من دون تأشيرة دخول. ويغادر قطار برست صباح كل يوم برحلة قصيرة الى الحدود البولندية حاملا 200 شيشاني، يجبرون على السفر بعربة مختلفة عن بقية المسافرين.
يختار حرس الحدود البولنديون عائلة واحدة فقط يوميا لتقديم طلب اللجوء، ويعاد البقية على متن القطار نفسه. وحاول رجل شيشاني الانتحار على الحدود قبل بضعة اشهر من العام الحالي، وكانت مكافأته ختم على جوازه يمنعه تلقائيا من محاولة اللجوء مستقبلا.
 
مطاردات مستمرة
أمضى أيوب أبو مسلموف وعائلته خمسة أشهر داخل شقة باردة ورطبة في برست، واستقلوا القطار مرات كثيرة اسبوعيا على أمل اختيارهم للجوء. وهرب أيوب من الشيشان بعد اختفاء أخيه مطلع العام 2017، وتعرض مع أحد الجيران للاختطاف، وأقتيدا الى مركز الشرطة المحلية، ولم يروه مجددا. وظهر اسمه ضمن قائمة ضمت 27 شخصا نشرتها صحيفة "نوفايا غازيتا" الروسية لضحايا اعدامات خارج نظاق القضاء.
بدأت مشاكل بقية أفراد العائلة عندما باشروا بكتابة شكاوى عما حدث، وبحلول حزيران 2017 أوقفت سيارة أيوب من قبل رجال يرتدون ملابس عادية وأدخلوه عنوة في سيارة أخرى، ونقلوه الى موقع غير معروف، حيث أحتجز وتعرض للتعذيب لأكثر من شهرين.
يصف أيوب ضربات خفيفة، إضافة الى معاملة أكثر شرا، مثل الصعقات الكهربائية. والأسوأ من ذلك هو التعذيب بالملح، اذ تكبل يداه وساقاه وتسكب كميات كبيرة من الملح داخل فمه. وعند وصوله نقطة الاختناق يعطى الماء للشرب مما يسبب ألما مبرحا بسبب مرور الملح داخل جسمه.
يقول أيوب: "أرادوا مني التوقيع على استمارة تذكر أن أخي كان يقاتل في سوريا وليست لدينا شكاوى على فرض القانون." ارتدى الجلادون ملابس الشرطة الرسمية، مع أن جميعهم باستثناء اثنين منهم كانوا يضعون أقنعة على وجوههم، وأطلق سراحه بعد أكثر من شهرين.
من المستحيل تأكيد تفاصيل إدعاءات أيوب بشأن التعذيب، لكن هناك عددا هائلا من القصص المشابهة عن شيشانيين وضعهم حظهم السيئ تحت رحمة قوات قديروف الأمنية. 
هرب أيوب وعائلته من الشيشان بعد اطلاق سراحه متجهين الى برست، بهدف الوصول الى غرب أوروبا. واحتاجوا مدة خمسة أشهر و40 رحلة بالقطار قبل سماح حرس الحدود البولنديين لهم بتقديم طلب اللجوء، لكن حتى بولندا لم تكن آمنة لحياته.
فبينما تعاملت السلطات البولندية مع طلب العائلة في بلدة بيالا بودلاسكا، أجرى أيوب مقابلة اعلامية عن مأزق عائلته. بعد ذلك وأثناء مغادرته أحد متاجر البلدة اقتربت منه سيارة بداخلها ثلاثة أشخاص، وحاولوا سحبه الى داخل السيارة لكنه قاومهم وركض هاربا.
يقول أيوب: "إتصل بي رقم روسي بعد يومين وكلمني صوت شيشاني قائلا هل تعتقد أننا لن نجدك في بولندا؟ سنجدك أينما ذهبت." وهربت العائلة الى ألمانيا حيث قدموا طلب لجوء جديد، لكنهم قوبلوا بالرفض حتى الآن، بسبب قانون يفرض على طالبي اللجوء تقديم طلبهم داخل "البلد الآمن الأول" والذي تراه السلطات الألمانية.. بولندا.
 
مأساة متكررة
عاش شيشانيون كثيرون قصصا مماثلة ولا يتحدثون علانية، خوفا من الانتقام ضد عوائلهم عند عودتهم الى الشيشان، لكن أيوب قال أنه وعائلته يريدون نشر قصتهم بسبب رفضهم الترهيب، ويريدون العدالة لأخيه. ورفعت العائلة أيضا قضية ضد روسيا لدى المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان. 
تقدم قضية تومسو عبد الرحمانوف منظورا موثقا نادرا للطريقة التي يتبعها نظام قديروف لتهديد الشيشانيين في أوروبا. 
كان تومسو يعمل ضمن شركة اتصالات بمدينة غروزني (عاصمة الشيشان) عندما اعتقل للاشتباه بأنه متطرف بسبب لحيته الطويلة. أكدت السلطات ذهابه الى سوريا للقتال هناك، وهو ادعاء ينفيه تومسو، وهرب الى جورجيا ومن ثم بولندا حيث بدأ مدونة فيديو تستنكر نظام قديروف. 
ونالت مقاطعه على يوتيوب آلاف الاعجابات، وسرعان ما تلقى مكالمة هاتفية من "ماغوميد داودوف" الذراع اليمنى لقديروف والمعروف على نطاق واسع في الشيشان بلقب "لورد" وسجل تومسو المكالمة ونشرها رقميا.
لم يلجأ اللورد للتهديدات فورا بسبب ادراكه أن تومسو كان خارج البلد ولديه عدد كبير من المتابعين. بدلا من ذلك وعده بمناقشة تلك القضايا علانية وحاول اقناعه بالعودة الى الشيشان لمساعدة قديروف، والذي يصفه اللورد بالامبراطور.
بعد فشله في احراز أي تقدم، ازداد غضب اللورد وطلب معرفة عنوان تومسو في بولندا، ومن ثم أعلن "الانتقام" من المدون. وجرى تصوير عائلة تومسو لاحقا في الشيشان بجانب مسجد القرية وهي تستنكر قريبها وتتبرأ منه، وقامت السلطات بنشر مقطع الفيديو رقميا، ويعتقد تومسو أن التسجيل حصل بالاكراه.
اقتنعت السلطات البولندية بوجود تهديد لحياة تومسو في روسيا، ومنحت اللجوء لزوجته وأطفاله الثلاثة. لكنها رفضت طلبه هو لأسباب تتعلق بالأمن الوطني، كما قالت إن الدليل الذي حرك القرار يعد سريا.
يبدو ممكنا أن سلطات اللجوء الأوروبية تعتمد على الاتهامات الروسية ضد الاشخاص بالميول الارهابية عندما تمنع طلبات لجوئهم. ويصح القول أن مئات الشيشانيين صاروا متطرفين خلال السنوات الأخيرة، وانضم بعضهم لداعش بل نالوا مناصب عليا في التنظيم. ويصح القول أيضا أن السلطات الشيشانية والروسية استغلت اتهامات التطرف الديني ذريعة لاعتقال أو تعذيب الأشخاص.
تأمل تساتييفا، الزوجة السابقة لزليمخان، أن مقتله قد يدفع أخيرا السلطات الألمانية للاهتمام ايجابيا بطلبها اللجوء مع أطفالها. ويقول طبيب عالج شيشانيين وضحايا آخرين للتعذيب طيلة عشرين سنة، أن إزالة تهديد الترحيل عن اللاجئين المصابين كان أفضل طريقة لمساعدتهم بالشفاء والاندماج.
 
تاريخ مضطرب
اتصف تاريخ الشيشان خلال السنوات الثلاثين الماضية بالتراجيديا والتعقيد، بعد تشظي القتال الأصلي طلبا للاستقلال عن روسيا خلال تسعينيات القرن الماضي. وعندما تولى فلاديمير بوتين الرئاسة الروسية أواخر العام 1999، أطلق حرب الشيشان الثانية بحملة جوية قاسية، وكسبت روسيا السيطرة مجددا على المنطقة، لكنها كانت بثمن بشري رهيب.
نصّب الكرملين أحمد قديروف، وهو متمرد غير ولاءه، مسؤولا عن الاقليم. وبعد مقتله عام 2004 تولى ابنه رمضان المنصب وأعاد بناء الاقليم بأموال روسية وأطلق له العنان لانشاء منطقة رمادية قانونية تعد كلمته فيها قانونا وازدهرت عبادة الشخصية.
تشظت حركة الانفصال، وانتقل من يفضل شيشان مستقلة علمانية الى أوروبا وأصبح بقية المسلحين أكثر تشددا واستخدموا وسائل ارهابية. وبحلول العام 2007 أعاد المسلحون تسمية حركتهم لتصبح "امارة القوقاز" سعيا وراء تطبيق الشريعة الاسلامية على مستوى كامل الاقليم ومن ثم التحالف مع داعش، واستغل قديروف ذلك لوسم جميع المعارضين له بالمتطرفين.
عملت قواته الأمنية مع مرور السنين بمزيد من الحصانة ضد أعدائه الحقيقيين والمفترضين. ولا يمكن التعرف على غروزني اليوم مقارنة مع المدينة المحطمة بعد الحربين، اذ نرى المباني الشاهقة الجديدة والبراقة مضاءة بالنيون ويدعى الشارع الرئيس "جادة بوتين". وتزين صور قديروف وأبيه مباني كثيرة، لكن خلف هذه المظاهر الزائفة هناك جو من الخوف المنتشر.