عدنان ابو زيد
تنطلق تظاهرات عراقية منذ الأول من تشرين الأول، داعية الى تصحيح وتغيير سياسي، يسهم في توطيد الاستقرار والعيش الرغيد والعدالة الاجتماعية وحرية الرأي.
التظاهرات العراقية ليست منعزلة عن العالم، فقد اندفعت احتجاجات مماثلة في خلال أسبوع واحد، في لبنان والجزائر وجورجيا واليونان، وفنزويلا وهونك كونك والتشيك واسبانيا وفرنسا وبوليفيا ومالي وغينيا الى الساحات.
ومهما تخالفت المآرب والوسائل، بين المهادنة والعنف والاشتباك المسلح بين المتظاهرين وقوات الأمن، يبقى الفيصل الأول في حسم معركة المستقبل، لصندوق الاقتراع، بحسب تجارب الدول المستقرة والمتطورة.
التجربة الديمقراطية العراقية، مهما تشبّثت سلبيات وأدران فساد، بها، تبقى الخيار الوحيد، في بناء المستقبل، ما يستدعي تعزيز دور صندوق انتخاب عراقي، إرادته نافذة، في معاقبة السياسي السيئ وإثابة السياسي الجيد.
انه وسيلة تعبير وتغيير، كائن ناطق بالحسم، يُحتكم اليه في اية عملية ديمقراطية حرة.
أتذكّر ذلك العراقي الذي لامس أول صندوق اقتراع في أول عملية انتخاب بعد العام 2003، ليتوفّى في نوبة قلبية، هي صدمة الحرية، وفرحة التشارك.
الصندوق ذو الشكل الهندسي، أضلاعه قوية، تتجشّم ضربات المجموعات الضاغطة وتلتقي عندها الكتلة المنافسة، وتتساوى أمامها النخب والبسطاء.
فتحة الصندوق تتسع لورقة تحدد المصير، حتى إذا امتلأ تفتّق عن صوت، هو صوت الحقيقة والاستحقاق.
لم تلامس أصابع العراقيين، الصندوق قبل العام 2003، حين كانت تتحسّس خشب السلاح بدلا عنه، على رغم اختراعه منذ القرن التاسع عشر الميلادي.
العراقي اليوم يجب ان يتجاوز أزمته، بالاحتكام اليه من جديد، وان لا يحيد عن مشوار الديمقراطية، وان لا ينجرّ الى خندق التيئيس، الذي يُحفر اليوم بمجارف الهدم والتقويض، وان يتحدّى، ويقول: سأحارب الفاسدين والسيئين، بورقة الاقتراع.
الإيجابية الكبرى للتظاهرات، انها تجعل العراقي يستيقن أهمية الكلمة الفصل للورقة التي يدسّها في فتحة الصندوق، لكي يضع المسؤول المناسب في المكان الملائم، وانْ يحسن اصطفاء ممثليه، في المستقبل، بعدما تأكدت رذائل الاختيار في الانتخابات المنصرمة.
المتوقع، بعد ريعان الاحتجاج، انتصار جديد لهذا الصندوق، على دعوات التثبيط، شرط أن يبدع المواطن في الانتقاء الواعي، مثلما أبدع في الاحتجاج من أجل التقويم.
ولنتذكّر بانّ لهذه الحاوية الانتخابية، صولات، عبر التاريخ والبلدان، فمنذ ان شرَّع البرلمان البريطاني، الاقتراع، وكان سريا، العام 1872، اكتسب الصندوق القداسة، فلا يوضع الا بإذن ولا يُفتح الا بإذن، وفق شروط لا تسمح لتزوير، ولا تكترث لقوة.
لا بأس في انّ الحراك الشعبي، منح الشباب العراقي، الانعتاق الواسع في الرأي في الكثير من الملفات، وجعل من المطالب قواعد سامية، لا يمكن للعملية السياسية، بعد الآن من تجاوزها، لكن هذه الحرية يجب ان ترتقي على السلم الديمقراطي الذي يضمنه صندوق الاقتراع، لكي تكتسب الشرعية المطلقة، والثبات الدائم، لا ردّ الفعل المؤقت.
وحيث انّ العراق يزخر بالتنوع الديني والقومي والطائفي والسياسي، فانّ الحلم يجب ان لا يُفسّر، بحسب مقاس كل طرف وارادته لوحدته، لكيلا تتحوّل المطالب الى مثال طوباوي، غير قابل للتطبيق.
الصندوق العراقي المرتقب، استثنائي في زمن فريد، لأنه يولد من رحم الألم، وربطت زواياه أضلاع العراقيين.
الصندوق العراقي مغيّب لعقود تحت بساطيل الجنود، ودبابات المغامرات، وبعد ذلك في دهاليز المحاصصة، لكنه سيحضر في روح العراقيين، مثل زهرة حمراء بلون الدم، الذي خضّب ساحات الاحتجاج.
ولكي لا تتحول الاستجابة الى مطالب المتظاهرين الى وجبات سريعة، لإسكات جوع المطالب، مخلفة فوضى وعسر في جسد الاحتجاج، فانّ الاقتراع يظل هو الفيصل، عبر ورقة وناخب، مصحوبا بوعي انتخابي، يسفر عن نتائج عادلة يرضى بها الجميع.