عباس الصباغ
افجعني كثيرا الخبر الذي كشف عن ضحايا النزاعات العشائرية الابرياء الذين سقطوا جراءها في جنوب العراق، فالطبيعة العشائرية التي اتصف بها المجتمع العراقي هي إحدى الصفات التي أشار إليها د. علي الوردي في مجمل مؤلفاته القيمة التي دارت حول المجتمع العراقي وتحليل شخصية الفرد العراقي كما قرن بين هذه الصفة مع إحدى مشاكل هذا المجتمع العالقة ألا وهي مسألة ترييف المدن ومايترتب على ذلك من تداعيات تتمثل في النزاعات العشائرية المسلحة التي بدأت تتحول الى ظاهرة خطيرة تلقي بظلالها على الشارع وتؤدي الى تفكّك بنية المجتمع ووحدته مما يتيح المجال لتفشي استخدام العنف المفرط بين المواطنين ويورث الاحقاد والثارات العشائرية التي تحصد المزيد من الارواح من جهة ومن جهة اخرى فان استمرار النزاعات العشائرية من شأنه تقويض سلطة الدولة مما يضع آمال الاستثمار تذهب أدراج الرياح و نفور الشركات والمستثمرين، خاصة العرب والأجانب، من الاستثمار في السوق العراقية.
والعشائرية في تجلياتها السلبية تغدو صفة مناقضة للطبيعة المدينية وللمستوى الحضاري للمدينة اذا خرجت من نطاقها وتغلغلت في غير مجالها الحيوي من خلال الزحف الريفي الكثيف والمتواصل والمستمر نحو المدن والاستقرار فيها ولأسباب شتى، أهمها العوامل الاقتصادية مثل تردي الحالة المعيشية في الأرياف وانتشار البطالة فيها مع إمكانية سهولة توفر فرص العمل في المدن التي تستوعب أعدادا متزايدة من الأيدي العاملة، لاسيما الرخيصة منها، الامر الذي يجعل التوازن الديموغرافي بين مكونات المجتمع أمرا في غاية الصعوبة وعلى المستويين البشري والحضاري باشتباك الفواصل الحضارية وتداخل المستويات المجتمعية مع استمرار الأسباب المؤدية الى ذلك.. وهو ما ولّد هجرات بشرية غير مسبوقة فرّغت الريف العراقي من اغلب قواه العاملة واوجد حالة إرباك ديموغرافي وطوبوغرافي في المدن يضاف الى ذلك زحف القيم الريفية (ومعها البدوية) الى قلب المدن واستبدال القيم المدينية المتحضرة بقيم أخرى ماسخة لقيم المدينة بجعل المدينة عبارة عن "قرية " كبيرة. وهذا التداخل غالبا ما يشكّل عقدة اجتماعية تتفاقم يوما بعد يوم تفضي الى نشوء شيزوفرينيا اجتماعية بسبب اشتباك منظومتين من القيم والعادات والتقاليد والأخلاق والسلوكيات، الأولى منظومة القيم المدينية والثانية منظومة القيم الريفية. ان المجتمع العراقي وهو يعيش غمار العقد الثاني من الألفية الثالثة في ظل المتغيرات العالمية المتسارعة وفي أجواء من العولمة التي جعلت العالم يعيش نهضة حداثوية في كل مجالات الحياة ، نجده مازال يئنّ تحت وطأة العشائرية وهيمنتها، خصوصا في المدن التي من المفترض ان تكون مراكز متحضرة وبؤر إشعاع حضاري بعد ان زحفت اليها العشائرية السلبية بكل ثقلها من قيم وممارسات هي اقرب الى البداوة منها الى الطابع المديني للمدن نتيجة للتحولات الهلامية والمنعطفات التاريخية الحادة والأزمات والحروب والممارسات الاستبدادية والأخطاء السياسية الفادحة التي ارتكبتها الحكومات المتعاقبة، فضلا عن عدم الاستقرار السياسي ورخاوة الثبات المجتمعي والإهمال المتعمد للريف وعدم شموله ببرامج التحديث والتنمية وهو مانراه جليا في ممارسات هي اقرب الى التوحش مثل مايسمى بـ(الدكَة العشائرية) وبعض التصرفات التي لاتتواءم مع حقوق الانسان كالنهوة والفصلية والديات القسرية المبالغ فيها ولاسباب قد تكون تافهة جدا، الامر الذي اثار قلق المرجعية الدينية العليا لاكثر من مرة ناهيك عن قلق المشرّعين ورجال الامن وفقهاء القانون الدستوري.
العشائرية بوجهها السلبي كقيم وممارسات لا تخلو منها اغلب المجتمعات الشرق الأوسطية او دول العالم الثالث ولكن بنسب ومعدلات متفاوتة ولكنها في العراق أخذت بعدا آخر أكثر عمقا وأوسع انتشارا وتغلغلا بين طبقات المجتمع حتى صارت لازمة، وصارت السلوكيات العشائرية السلبية طابعا سوسيولوجيا عاما تطبـَّع به هذا المجتمع.
وفي هذا الاتجاه تعد العشائرية السلبية احد العوامل التي تسهم في تقوية ثقافة التجزئة والنزعة الفئوية والجهوية، كما تضعف من ثقافة المواطنة والولاء العام للوطن باعتبارها إحدى الهويات الفرعية التي ترسّخ خندقة المجتمع وتفتّته وهذا ما عملت الديكتاتوريات المتعاقبة على ترسيخه في إطار إضعاف المجتمع العراقي للسيطرة عليه وإضفاء شبح التخلف المجتمعي والنزعات البعيدة عن حركة التقدم ..كما تعد العشائرية احد نقائض العقد الاجتماعي الذي بموجبه تفعل مبادئ الوحدة الوطنية وأسس التوجه نحو بناء مجتمعي مؤسس على الديمقراطية وأسلوب الحداثة والتطور.