كيف فشلت الليبرالية في شرق أوروبا ؟
بانوراما
2019/11/22
+A
-A
ايفان كراستيف وستيفن هولمز
ترجمة: خالد قاسم
شهد ربيع العام 1990 انتقال الأميركي جون فيفر لعدة أشهر بين دول أوروبا الشرقية على أمل كشف لغز مستقبلها ما بعد الشيوعية وتأليف كتاب عن التحول التاريخي المتكشف أمام عينيه. لم يكن جون خبيرا، ولذلك بدلا من اختباره النظريات طرح أسئلة على أكبر عدد ممكن من الأشخاص ومن مختلف مناحي الحياة.
التناقضات التي واجهها كانت مثيرة وعجيبة، اذ شعر سكان تلك المنطقة بالتفاؤل والقلق في الوقت نفسه، والكثير من الذين قابلهم آنذاك توقعوا العيش على غرار سكان لندن أو فيينا خلال خمس سنوات أو عشر على الأكثر، لكن تلك الآمال اختلطت مع القلق والهواجس.
نشر جون كتابه لكنه لم يعد الى الدول التي سيطرت لفترة وجيزة على مخيلته، ومن ثم بعد 25 سنة قرر اعادة زيارة المنطقة والبحث عن هؤلاء الذين قابلهم عام 1990.
هذه المرة أوروبا الشرقية أغنى الّا أن الاستياء يسيطر عليها، اذ وصل المستقبل الرأسمالي لكن منافعه وأعباءه غير متساوية حتى أنها موزعة بطريقة جاهلة.
اكتسب سعي الدول الشيوعية سابقا لمحاكاة الغرب بعد العام 1989 بعض الألقاب، مثل الدمقرطة والاندماج والعولمة والتوافق والأمركة والنزعة الأوروبية والليبرالية والتوسيع وغيرها، لكنه دل دائما على الحداثة عبر التقليد والاندماج عبر
الاستيعاب.
وبعد انهيار الشيوعية، كما يقول شعبويو أوروبا الوسطى حاليا، أصبحت الديمقراطية الليبرالية معتقدا تقليديا جديدا لا يمكن الهروب منه. ويبقى مصدر ندمهم المستمر هو أن تقليد قيم ومواقف ومؤسسات وممارسات الغرب أصبح أساسيا والزاميا.
تنتشر في وسط وشرق أوروبا حكومات كانت ديمقراطية برزت بنهاية الحرب الباردة وتحولت الى أنظمة تسيطر عليها نظرية المؤامرة، وتصف من يعارضها سياسيا بالشيطان وتجرد الاعلام غير الحكومي والمجتمع المدني والقضاء المستقل من نفوذها أما سيادتها فيحددها اصرار الزعماء على مقاومة الضغط للالتزام بالمثل الغربية للتعددية السياسية وشفافية الحكومة والتسامح مع الغرباء والمنشقين والأقليات.
وهم زائل
لا يوجد عامل لوحده يمكنه تفسير الظهور المتزامن للأنظمة التسلطية المعادية لليبرالية في دول كثيرة ومختلفة الأوضاع بالعقد الثاني من القرن 21.
ومع ذلك لعب الاستياء من المكانة المقدسة للديمقراطية الليبرالية وسياسة التقليد دورا حاسما. وقدّم الغرور المحض “بعدم وجود طريق آخر” دافعا مستقلا لموجة رهاب الأجانب الشعبوية وعداء المهاجرين الرجعي الذي بدأ بوسط وشرق أوروبا، وينتشر بمناطق واسعة من العالم.
عندما انتهت الحرب الباردة كان التسابق نحو الانضمام للغرب المهمة المشتركة بين دول وسط وشرق أوروبا. ورأى الناس الاستنساخ الحماسي للنماذج الغربية بالترافق مع انسحاب القوات السوفيتية من المنطقة بمكانة التحرير، لكن بعد عشرين سنة شاقة صارت سلبيات سياسة التقليد واضحة جدا ولا يمكن انكارها.
ارتبطت الليبرالية خلال السنوات الأولى بعد العام 1989 بالمثل العليا للفرصة الفردية وحرية التنقل والسفر والاستياء بدون عقاب والوصول للعدالة والاستجابة الحكومية لمطاليب الشعب.
بحلول 2010 تشوهت النسخة الشرق أوروبية لليبرالية بزيادة عدم المساواة الاجتماعية والفساد المنتشر واعادة التوزيع العشوائية للعقارات العامة بين قلة من الأشخاص.
وساهمت الأزمة الاقتصادية عام 2008 بتغذية عدم الثقة برجال الأعمال ورأسمالية الربح السريع التي دمرت النظام المالي العالمي.
لم تتعاف سمعة الليبرالية في المنطقة منذ العام 2008، وأضعفت الأزمة المالية قضية ثلة من الاقتصاديين المتدربين في الغرب للاستمرار بتقليد رأسمالية النموذج الأميركي.
وارتبطت الثقة بأن الاقتصاد السياسي للغرب كان نموذجا لمستقبل الجنس البشري مع الايمان بأن النخب الغربية عرفت ماذا كانت تفعل، وفجأة صار واضحا أنها لم تكن تعرف ولذلك كان لأزمة 2008 تأثير أيديولوجي ساحق وليس اقتصاديا فحسب.
سبب آخر لنجاح شعبويي وسط وشرق أوروبا بالمبالغة في الجوانب المظلمة لليبرالية الأوروبية هو أن مرور الزمن قد مسح عن الذاكرة الجمعية الجوانب الأكثر ظلاما لمعاداة الليبرالية الأوروبية.
وفي الوقت نفسه، تسعى الأحزاب اللاليبرالية الحاكمة بوسط وشرق أوروبا مثل التحالف المدني الهنغاري وحزب القانون والعدالة البولندي الى تشويه سمعة المبادئ والمؤسسات الليبرالية بهدف حرف الانتباه عن الاتهامات المشروعة بالفساد وسوء استخدام السلطة. ولتبرير تفكيك الصحافة والقضاء المستقلين، ادعى هؤلاء أنهم يدافعون عن الأمة ضد أعداء “متأثرين بالخارج.”
ظاهرة متشعبة
مع ذلك، التركيز على فساد وانحراف الحكومات غير الليبرالية في المنطقة لن يساعدنا بفهم مصادر الدعم الشعبي للأحزاب الشعبوية الوطنية. ومما لا شك فيه أن جذور الشعبوية معقدة، لكنها تكمن جزئيا بالاهانات المرتبطة مع الصراع الشاق للتحول الى نسخة أدنى من النموذج الأعلى. وأتاحت الليبرالية ما بعد الوطنية المرتبطة بتوسيع الاتحاد الأوروبي للشعبويين بالملكية الحصرية للهوية والتقاليد القومية.
كان ذلك العامل الرئيس وراء الثورة المعادية لليبرالية في المنطقة، لكن العامل الفرعي كان الافتراض المؤكد بعدم وجود بدائل للنماذج الليبرالية السياسية والاقتصادية بعد العام 1989.
لكن هذا الافتراض أنتج رغبة معاكسة لاثبات وجود بدائل بالفعل، ونأخذ على سبيل المثال حزب أقصى اليمين الشعبوية الألماني “البديل لأجل ألمانيا” وكما يوحي اسمه فقد تأسس ردا على ادعاء أنجيلا ميركل بأن سياستها النقدية “لا بديل لها”.
يقول جورج أورويل “كل الثورات فاشلة، لكنها ليست متشابهة بالفشل” ولذلك ما هو نوع فشل ثورة 1989، اذا أخذنا بعين الاعتبار أن هدفها كان الحالة السوية على الطراز الغربي؟ وإلى أي مدى كانت ثورة 1989 الليبرالية مسؤولة عن الثورة المضادة التي أنطلقت بعد عشرين سنة؟
“الثورات المخملية” بمختلف مناطق وسط وشرق أوروبا عام 1989 لم تشبها معاناة انسانية كانت تشكل جزءا لا يتجزأ من الثورات السياسية الراديكالية.
ولم يسبق اسقاط أنظمة كثيرة ذات جذور عميقة بالتزامن واستبدالها باستخدام وسائل سلمية، وأشاد اليسار بتلك الثورات المخملية كونها تعبيرات عن السلطة الشعبية، أما اليمين فمجدّها لأنها انتصار للسوق الحرة على الاقتصاد الموجه وانتصار مستحق للحكومة الحرة على الدكتاتورية الشمولية.
ومن جانبهم، شعر الليبراليون الأميركيون والمؤيدون لأميركا بالفخر لارتباط الليبرالية مع الرومانسية المحررة للتغيير. ومن المؤكد أن تلك التغييرات السلمية للأنظمة الشرقية قد اكتسبت أهمية تاريخية عالمية لأنها سجلت نهاية الحرب الباردة.
لم تكن الطبيعة السلمية لثورات 1989 الخاصية المميزة الوحيدة لها، فاذا أخذنا بالاعتبار الدور الشعبي الكبير لمفكرين مبدعين ونشطاء سياسيين عباقرة مثل فاكلاف هافل في تشيكوسلوفاكيا وأدم ميشنيك البولندي، فأحداث تلك السنة تستذكر أحيانا بأنها ثورات مفكرين.
لكن ما ضمن بقاء تلك الثورات “مخملية” كان خلفيتها العدائية للمثالية والتجارب السياسية.
حياة طبيعية
لم يحلم سكان وسط وشرق أوروبا أنفسهم في 1989 بعالم مثالي غير موجود اطلاقا، ولكنهم تاقوا لحياة طبيعية بدولة طبيعية.
وعندما زار الشاعر الألماني هانز ماغنوس هنغاريا أواخر السبعينيات وتحدث مع بعض النقاد المعروفين للنظام الشيوعي، أخبروه “أنهم ليسوا منشقين، بل نمثل الحالة الطبيعية.” وكان شعار ميشنيك لما بعد الشيوعية هو “الحرية والأخوة والحالة السوية” وبعد عشرات السنين من التظاهر بمستقبل متألق فالهدف الرئيس للمنشقين كان العيش في الحاضر والتمتع بملذات الحياة اليومية.
رأت نخب وسط أوروبا تقليد الغرب مسارا مجربا للحياة الطبيعية بهذا المعنى، لكن وعلى أمل الانضمام للاتحاد الأوروبي فقد قلل المصلحون من قيمة العوائق المحلية أمام الليبرالية والدمقرطة وبالغوا بجدوى استيراد النماذج الغربية. وتعكس الموجة المعادية لليبرالية التي تكتسح وسط أوروبا استياء شعبيا واسع النطاق تجاه الاهانات ضد الكرامة الوطنية والشخصية المتضمنة بمشروع التقليد.
خلقت النشوة بسقوط الشيوعية الأوروبية توقعات بقرب حصول تطورات جذرية أخرى، واعتقد البعض أنها ستكفي لتخلي المسؤولين الشيوعيين عن مناصبهم من أجل ايقاظ السكان بدول مختلفة وأكثر حرية وازدهارا وفوق كل هذا أكثر غربيةً. وعندما لم يتحقق التحول السحري السريع نحو الحياة الغربية، بدأ حل بديل بكسب الأفضلية وهو الهجرة مع العائلة الى الغرب.
تجبر الثورات الأشخاص على عبور الحدود، فبعد الثورة الفرنسية عام 1789 ومن ثم بعد الثورة البلشفية 1917 هاجر خصوم الثورة المهزومين من بلادهم، لكن بعد ثورات 1989 المخملية قرر الفائزون الفرار من دولهم. وكان الأفراد الأقل صبرا لرؤية تغيير أوطانهم هم أنفسهم الأكثر رغبة للانغماس بحياة المواطنة الحرة وبالتالي أول من رحلوا للدراسة والعمل والعيش في الغرب.
من المستحيل تخيل أن تروتسكي كان سيقرر بعد انتصار الثورة الشيوعية التسجيل بجامعة أوكسفورد، لكن هذا ما فعله رئيس الوزراء الهنغاري الحالي فيكتور أوربان وكثيرون غيره. شكلت ثورات 1989 دافعا قويا للسفر غربا للمراقبة عن كثب كيفية عمل نمط المجتمع الطبيعي الذي تمنوا بناءه بدولهم.
امتلك التدفق السكاني الهائل خارج المنطقة ما بعد حقبة الحرب الباردة، وخصوصا هجرة الكثير من الشباب، عواقب عميقة اقتصاديا وسياسيا ونفسيا. فعندما تغادر طبيبة بلادها فهي تأخذ معها كافة الموارد التي استثمرتها دولتها بتعليمها وتحرم وطنها من موهبتها وطموحها. أما الأموال التي ستحولها الى عائلتها فلن تعوض خسارة مشاركتها الشخصية بحياة وطنها الأم.
هجرة سلبية
أضرت هجرة الأفراد الشباب والمتعلمين كثيرا بفرص الأحزاب الليبرالية لتحقيق نتائج جيدة في الانتخابات، وربما يفسر سفر الشباب لماذا نجد ملاعب جميلة ممولة من الاتحاد الأوروبي بدون أطفال يلعبون فيها.
ومن المهم القول أن أداء الأحزاب الليبرالية أفضل بين الناخبين الذين يدلون بأصواتهم بالخارج، ففي العام 2014 على سبيل المثال أنتخب الليبرالي من القومية الألمانية كلاوس يوهانيس رئيسا لرومانيا بسبب 300 ألف روماني يعيشون بالخارج وصوتت غالبيتهم الساحقة لصالحه.
تعيدنا قضايا الهجرة وخسارة السكان الى أزمة اللاجئين التي ضربت أوروبا عامي 2015 - 2016، فقد قررت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يوم 24 آب 2015 السماح لمئات آلاف اللاجئين السوريين بدخول بلادها.
وبعد عشرة أيام فقط، أي 4 أيلول، أعلنت مجموعة دول جمهورية التشيك وسلوفاكيا وهنغاريا وبولندا أن نظام الحصص للاتحاد الأوروبي لتوزيع اللاجئين عبر القارة “غير مقبول”.
بدأ الذعر الديموغرافي الذي ساد وسط أوروبا بين عامي 2015 و2018 بالتلاشي الى حد ما، وما يزال علينا أن نسأل لماذا نجد مثل هذه المادة السياسية القابلة للاشتعال بوسط وشرق أوروبا علما أن دولها لم تستقبل لاجئين فعليا.
السبب الأول هو الهجرة، فالقلق منها أثاره الخوف بأن الأجانب غير المندمجين سيدخلون البلاد ويميعون الهوية الوطنية ويضعفون التماسك الوطني. وهذا الخوف بالمقابل أشعله الإنهماك غير المعلن بالانهيار الديموغرافي، ففي الفترة بين 1989 و2017 خسرت لاتفيا 27 بالمئة من سكانها وليتوانيا 22 بالمئة وبلغاريا 21 بالمئة وغادر رومانيا 3،4 مليون شخص غالبيتهم العظمى تقل أعمارهم عن 40 سنة بعد انضمامها للاتحاد الأوروبي عام 2007.
ويعد مزيج شيخوخة السكان ومعدلات الولادات الواطئة والتدفق غير المنتهي من المهاجرين مصدر الذعر الديموغرافي في وسط وشرق أوروبا. وفاق عدد سكان تلك المنطقة المغادرين لها بسبب أزمة 2008 المالية عدد كل المهاجرين الوافدين اليها بسبب الحرب السورية.
يبدو أن شعبويي وارشو وبودابست قد حولوا أزمة اللاجئين بالغرب الى فرصة سانحة للشرق، فالمواطنون سيتوقفون عن الرحيل الى الغرب اذا خسر جاذبيته. ويمكن تفسير ذم الغرب واعلان مؤسساته “غير جديرة للتقليد” كانتقام تخيلي ولد من الاستياء.
لكنه يحقق منفعة جانبية بخدمة أهم أولويات سياسات المنطقة وهي عدم تشجيع الهجرة. ويشجب الشعبويون طريقة ترحيب غرب أوروبا بمهاجرين من أفريقيا والشرق الأوسط، لكن شكواهم الحقيقية هي أن الأعضاء الغربيين بالاتحاد الأوروبي قد فتحوا أبوابهم بصورة جذابة لسكان وسط وشرق أوروبا، وحرموا تلك المنطقة من أكثر مواطنيها انتاجية.
تعد الديمقراطية غير الليبرالية بفتح عيون المواطنين، واذا كان الاجماع الليبرالي للتسعينيات يتعلق بالحقوق الفردية القانونية والدستورية، فالاجماع الحالي المعادي لليبرالية هو أن حقوق الغالبية من المسيحيين البيض المهددين تواجه خطرا
مميتا.