دور المنهاج الوزاري الجديد في إقامة الدولة الحضارية الحديثة

آراء 2018/11/22
...

محمد عبد الجبار الشبوط
هل يشكل المنهاج الوزاري لحكومة الاخ عادل عبد المهدي خطوة الى الامام في طريق اقامة الدولة الحضارية الحديثة؟ الى اي مدى يمكن لهذا المنهاج ان يسهم في تحقيق هذا الهدف الستراتيجي البعيد؟
للاجابة عن هذا السؤال ينبغي رسم الصورة العامة للدولة الحضارية الحديثة مستخلصةً من تمظهراتها الحالية في العديد من دول العالم. وتتألف هذه الصورة من النقاط التالية:
د ح ح مستقرة متماسكة مستديمة لا تعاني من عوارض الهشاشة والاهتزاز الداخلي والتمزق.
تشكل المواطنة العنوان الاساسي لعلاقة الحكام والمحكومين في د ح ح، والمواطنة حالة حقوقية وقانونية مكتسبة تتجاوز التوصيفات العرقية والدينية والمذهبية والسياسية والحزبية الخ لرعايا الدولة.
تقوم د ح ح على اساس الديمقراطية التمثيلية والاشكال الاخرى المتقدمة للديمقراطية مثل الديمقراطية الرقابية والديمقراطية التداولية، والتداول السلمي للسلطة والتغيير السلس للحكومات بدون اراقة الدماء او اثارة التوترات السياسية والمجتمعية.
يتمتع الفرد في د ح ح بكامل حقوقه السياسية والمدنية وخاصة الحرية والامن والمساواة والحق في الخصوصية الخ.
تقوم د ح ح باشكالها المتقدمة برعاية المواطن رعاية تحقق درجة عالية من الرضا والارتياح خاصة في مجالات الصحة والتعليم والسكن والخدمات الاخرى الضرورية مثل الكهرباء والماء وكل ما يسهم في تحسين مستوى ونوعية الحياة، سواء بصورة مباشرة او عن طريق القطاع الخاص.
تقوم الحياة في د ح ح على اساس الاستفادة القصوى من العلم والتكنولوجيا الحديثة، وتيسير الاجراءات خاصة في ما يتعلق  بالمعاملات الحكومية وتسجيل الشركات وتنشيط القطاع الخاص.
 تمتاز د ح ح ببنية تحتية يتم تحديثها وصيانتها بصورة مستمرة بالاستفادة من منجزات العلم والتكنولوجيا.
المؤسساتية من خصائص د ح ح سواء على المستوى السياسي كالاحزاب السياسية (ضمن تعددية معقولة) والمجالس التشريعية والتمثيلية والتنفيذية، وعلى المستوى الاجتماعي وخاصة بالنسبة لمنظمات المجتمع الاهلي وعلى المستوى الاقتصادي من خلال الشركات المتنوعة التي تستند الى القانون.
يمثل القانون وسيادته وكلمته العليا الفصل الضمانة الاولى للاستقرار والامن والحقوق والواجبات.
ومما يعزز حماية الفرد وحقوقه القضاءُ المستقل العادل غير الخاضع لتاثيرات وضغوط القوى السياسية والمجتمعية المختلفة.
وتمتاز د ح ح بوجود مجتمع حسن التنظيم اساسه الالتزام العام بالقانون والتوازن في معادلة الحقوق والواجبات إذ تقوم الدولة بمسؤولياتها ازاء المواطن ويقوم المواطن باداء واجباته ازاء الدولة كدفع الضرائب والرسوم والتقيد بالقانون.
تمتاز د ح ح بدرجة عالية من الشفافية والنزاهة ويتقلص الى درجة كبيرة هامش الفساد والرشوة والتحيزات واستغلال المنصب لاغراض الاثراء غير المشروع وخدمة المصالح الفردية والعائلية للعاملين في الوظيفة 
العامة.
تتمتع د ح ح بوجود اعلام مهني مستقل يتمتع بحق الوصول الحر الى المعلومات والحماية الوظيفية والشخصية وممارسة الرقابة والنقد وتزويد المتلقي بالمعلومات بدرجة عالية من الموضوعية والحيادية.
تهتم د ح ح بالعلم والبحث العلمي والتكنولوجيا الحديثة والهندسة الجينية والنانو تكنولوجي والتعليم المدرسي وغيرها وخاصة ما كان على علاقة بتحسين حياة الانسان وظروفه المعيشية  والصحية والاقتصادية. ولا ننسى ان اكبر انجاز علمي حققته البشرية بعد اختراع العجلة والكتابة، واعني به فك شفرة الـ DNA تم برعاية وتمويل حكوميين بالدرجة الاولى.
تقوم الحياة الاقتصادية في د ح ح على اساس اقتصاد السوق إذ يزدهر القطاع الخاص في د ح ح في ظل بيئة قانونية تحمي الملكية الخاصة، وبراءات الاختراع، والملكية الفكرية، وحقوق العاملين في القطاع الخاص، وعدالة المنافسة مع القطاع العام ان وجد. 
تمتاز د ح ح باللامركزية الادارية الواسعة التي تعطي للادارات المحلية هامشا كبيرا في التصرف لتلبية احتياجات مواطنيها وخدمتهم.
اخيرا يمكن القول والاستنتاج ان الدولة الحضارية الحديثة تمثل الاطار العام الذي يتيح للمركب الحضاري وعناصره الخمسة، والقيم الحافة به، افضل ظروف الاشتغال والانتاج، وخاصة توفير الشروط القانونية المناسبة للاشتغال.
هذا مخطط عام مختصر للدولة الحضارية الحديثة كما نراها في العديد من الدول الان؛ فأين تقع هذه الصورة في المنهاج الوزاري، والى اي درجة يمكن ان يقربنا منها خلال السنوات الاربع المقبلة؟.
ابتداءً، يستخدم النص الحكومي مصطلح “المنهاج الوزاري”، وهي عبارة دستورية يتم على اساسها نيل الثقة في البرلمان حسب نص المادة  (76)/ رابعاً التي تقول: “يعرض رئيس مجلس الوزراء المكلف، اسماء اعضاء وزارته، والمنهاج الوزاري، على مجلس النواب، ويعد حائزاً ثقتها، عند الموافقة على الوزراء منفردين، والمنهاج الوزاري، بالاغلبية المطلقة.”
والمنهاج الوزاري هو الطريقة العامة او الأسس العامة للتعاطي الحكومي مع الملفات الحيوية والأساسية للبلد. انه يمثل العقلية العامة والتوجهات الرئيسة للحكومة.
والمنهاج الوزاري يعدنا بان تقدم الحكومة برنامجها الحكومي خلال المئة يوم الاولى من توليها 
السلطة. 
والبرنامج الحكومي هو برنامج عملي يغطي   فترة الاربع سنوات و يجب ان يكون واقعيا وتفصيليا ويتحدث بلغة الارقام والتوقيتات الزمنية 
الدقيقة.
وهذا يعني ان بامكاننا الانتظار الى ان يصدر البرنامج الحكومي لاصدار الحكم النهائي على توجهات الحكومة في ما يتعلق بالدولة الحضارية 
الحديثة.
لا يستخدم المنهاج الوزاري مصطلح “الدولة الحضارية الحديثة”، ولا المصطلحات المتعلقة به، ولا يجعلها هدفا اعلى  للحكومة او للمجتمع. لا يمكننا القول او الاستنتاج بسهولة من خلال المنهاج الحكومي ان العقل المركزي الذي سطر المنهاج الوزاري ينطلق من رؤية شاملة ومتماسكة لفكرة د ح ح، او قد يكون يتمتع بذلك، لكن لم يتمكن من تجسيدها بصورة واضحة وملموسة ومحسوسة في المنهاج الوزاري لظروف خارجة عن ارادته.
بدل ذلك استخدم المنهاج الوزاري عبارة “استكمال بناء اسس الدولة الاتحادية الواحدة ونظامها الجمهوري النيابي الديمقراطي”. هنا كان بالامكان اضافة من اجل الوصول بالعراق الى الدولة الحضارية الحديثة.
 بما ان مصطلح د ح ح يمثل توجها عاما وستراتيجيا للحكومة فقد كان من الافضل ان ينص عليه بوضوح في المنهاج الوزاري تمهيدا للبرنامج الحكومي ولاسيما ان مصطلح د ح ح ليس مصطلحا حزبيا او عقائديا ولا يشير الى حمولات ودلالات قبلية مسبقة، انما هو تعبير عن طموحات الناس لتحقيق مستوى افضل لحياتهم ومعيشتهم.
ولتدارك هذا الامر كتبت رسالة الى الاخ عادل عبد المهدي، مرفق نصها الكامل بهذه الورقة، اقترحت عليه، من بين امور اخرى، “تحديد هدف مركزي للمنهاج الحكومي هو: الدولة الحضارية الحديثة. وتكون فقرات المنهاج في طول هذا الهدف ومنظورا اليها من زاوية دورها في تحقيقه. يحدد امد زمني لذلك يصل الى عام 2030”.
وقد انعكس غياب هذه الرؤية على فقرة وزارة التربية ووزارة الثقافة في المنهاج الحكومي، وهما الوزارتان الاهم في الحركة باتجاه الدولة الحضارية الحديثة. فقد برهنت التجارب الحديثة والمعاصرة منذ الثورة الفرنسية عام 1789 حتى الان، مرورا باليابان وسنغافورة وغيرهما، ان د ح ح تولد في الصف الاول الابتدائي. ومن هناك تبدأ خطوات اقامتها لبنة لبنة. ان الطفل العراقي سيبقى في عهدة الدولة العراقية ووزارة تربيتها لمدة 12 عاما، والمفروض ان يخرج هذا الطفل من المدرسة وقد اصبح مواطنا فعالا حضاريا صالحا عارفا بحقوقه وواجباته، مزودا بالتربية القيمية الحضارية، والمعرفة العلمية التي تؤهله الى ان يكون فردا ايجابيا منتجا في المجتمع. وهذا ما كان على المنهاج الحكومي ان ينص عليه بوضوح يجسد الفلسفة العامة للحكومة الساعية الى ايصال العراق الى شاطئ د ح ح.
وبغض النظر عن هذه الملاحظة المركزية، فاننا لا نعدم ان نجد مفردات متفرقة في المنهاج الوزاري هي في حقيقتها من عناصر او عناوين الصورة الاشمل للدولة الحضارية 
الحديثة. 
ومن بين هذه العناصر:
1. تطوير انظمة الحوكمة بشكل جذري  لتكون بديلا عن الادارات البيروقراطية المتخلفة السابقة، واحلال النظم الذكية والحكومات الالكترونية بديلا عن النظم الورقية.
2. سيادة النظام والقانون وتعزيز الامن الداخلي.
3. اعادة النظر بقانون الاحزاب والانتخابات بما يضمن عدالة النظام الانتخابي.
4. اصلاح القضاء والمحاكم والاجراءات واحترام حقوق المواطنين وانصافهم.
5. تطبيق الباب الرابع من الدستور نصا وروحا.
6. معالجة الفساد والهدر العام.
7. الانتقال من الدولة الريعية الى اقتصاد السوق.
وهذا يسمح لنا بالقول ان المنهاج الوزاري يمثل قصيدة طويلة تضم ابياتا جميلة لكن القصيدة ليست من بحر واحد ولا ذات قافية واحدة.
وفي الاخير فان قيمة المنهاج والبرنامج الوزاريين لا تكمن فقط في نصوصهما، بل في الاشخاص الذين يتولون ترجمتها عمليا من وزراء ومستشارين ومدراء تنفيذيين وصولا الى اصغر موظف في الدولة.
فاذا كان هؤلاء يحملون فكرة واضحة عن د ح ح ويؤمنون بها كانوا اقدر على قيادة السفينة نحو شاطئ د ح ح.
كما تكمن في قدرته على تحريك الطاقة الحرارية  للمجتمع وتشجيع وتسهيل انخراط واشتراك المواطنين  في حلقاته التنفيذية.