فارق شاسع بين تشوكوتكا الروسية وألاسكا الأميركية

بانوراما 2019/11/24
...

مجلة ايكونومست
ترجمة: خالد قاسم
من السهل نسيان أن روسيا والولايات المتحدة بينهما أقل من ثلاثة أميال، عبر المياه المتجمدة لمضيق بيرنغ. ويمكن للمرء التلويح بيده أو النظر بسخط من جزيرة ديوميد الصغرى الأميركية نحو جزيرة ديوميد الكبرى الروسية. ويسكن الجزيرة الصغرى مئات الإسكيمو، أما الكبرى فهي موقع منشآت عسكرية قليلة وبعض الجنود الروس المؤقتين. وتخيل مهندسون بعيدو النظر منذ زمن طويل بناء نفق يربط البلدين ويبلغ طوله ضعف النفق الرابط بين بريطانيا وفرنسا. لكن المنطقتين، بينهما جسر أرضي عمره 13 ألف سنة على الأقل، تشعران كما لو أنهما على كوكبين مختلفين.
وتوفر اختلافاتهما وأوجه تشابههما عدسة يمكن النظر منها لحظوظ البلدين المتفاوتة، اذ تعد ألاسكا ولاية نابضة بالحياة ذات عدد سكان متزايد باستمرار واقتصاد نشيط وديمقراطية قوية. وتفتخر الولاية بالمكانة الفدرالية التي حققتها عام 1959 وتناقض بعدها الجغرافي عن العاصمة واشنطن.
وهناك أيضا أقلية معتبرة من الإسكيمو وسكان أصليين آخرين يطالبون بحقوق ثقافية ومالية أكبر بعد أجيال من التمييز. 
على النقيض من ذلك، تقلصت مدينة تشوكوتكا من 148 ألف نسمة عند انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 الى أقل من 48 ألف حاليا، وتعاني عمليا على كل الجبهات فمستوى المعيشة هناك أقل بكثير من نظيرتها الأميركية وحكومتها خاضعة لسيطرة موسكو البعيدة جغرافيا ويعتمد اقتصادها كليا على الذهب (بإدارة شركة كندية) والفحم (بإدارة شركة أسترالية) واعانات هزيلة من موسكو. أما السكان الأصليون فيواجهون أوقاتا أكثر صعوبة بمحاولة تأكيد حقوقهم.
ازدهرت صداقة المنطقتين بنهاية الثمانينيات عند ذروة الآمال بذوبان "الستار الجليدي" بين القوتين العظميين بسبب تقارب ميخائيل غورباتشوف ورونالد ريغان، وتواصلت بلدة "نوم" الصغيرة الساحلية الأميركية مع أقرب ميناء سوفييتي، وشهد العام 1988 قيام مجموعة من الشخصيات البارزة في ألاسكا ومنهم حاكم الولاية ب "رحلة صداقة جوية" عبر الحوض الضيق للبحر من البلدة الى الميناء بهدف البدء بعهد جديد من التعاون بمجالات العلوم والبيئة والتجارة والثقافة
والدبلوماسية.
 
التوأم المنفصل
لا يزال المتفائلون وخصوصا في ألاسكا يسعون لإحياء تلك الصداقة، لكنهم يواجهون عقبتين: اختلاف الثروات بين المكانين، وعودة بروز الستار الجليدي على الرغم من علاقة ترامب الجيدة نسبيا مع بوتين.
كانت نقطة البدء للعلاقة العابرة للقناة في الثمانينيات هي اعادة انشاء السفر بدون تأشيرة دخول للسكان الأصليين من كلا الجانبين، ويتحدث الكثير منهم اللغة نفسها وهناك صلات قرابة بين الكثيرين ولم يلتقوا منذ 1948 عندما أنهت الحرب الباردة التآخي عبر المضيق، وحصلت حالات لم شمل وحديث عن الحدود المفتوحة بعد 1988.
تشترك شبه الجزيرتين بخصائص كثيرة، اذ يعد مناخهما من بين الأقسى عالميا وهبطت درجة الحرارة في تشوكوتكا بإحدى المرات الى 61 درجة مئوية تحت الصفر، والمشهد الطبيعي بكلا الجانبين كئيب لكنه مزيج جميل من السهول والبحيرات والجبال المتجمدة طيلة ثمانية أشهر من السنة.
وتعد تشوكوتكا المنطقة الأقل كثافة سكانية على سطح الأرض باستثناء القارة القطبية الجنوبية ومناطق من الصحراء الافريقية.
أما النصف الشمالي من ألاسكا فيكاد يكون خالياً أيضا من السكان، ولا يقل مناخه قساوة عن الجانب الروسي. 
ويقطن منطقة مضيق بيرنغ نحو 20 ألف نسمة، وتتجمد المياه الساحلية لكلا الجانبين معظم أيام السنة. وكانت ألاسكا جزءا من روسيا حتى 1867 عندما اشترتها أميركا مقابل مبلغ تافه قدره 7،2 مليون دولار (ويعادل 125 مليون دولار حاليا وهو ايرادات انتاج آبار نفط الولاية لمدة أربعة أيام).
توجد تشابهات أخرى كثيرة، فالطرق البرية بغرب ألاسكا ضئيلة في الصيف كما هي حال تشوكوتكا، ويستطيع المرء السفر من "نوم" الى "أنكورج" العاصمة التجارية للولاية لمسافة 864 كيلو متراً جوا فحسب أو بحرا لكن الرحلة تستغرق أسبوعا. 
ولا تمتلك تشوكوتكا شبكات طرق لكل حالات الطقس مع أن طرقها الجليدية والثلجية تؤدي عملا رائعا.
يعني وجود التربة الصقيعية على كلا الجانبين أن المنازل تبنى على ركائز قصيرة وثخينة يمكن ضبطها نظريا مع تحول التربة بين الانجماد الطويل والذوبان العابر، مما يقدم للمارة منظرا للأنابيب البشعة والقمامة تحت المنازل. وتعني التربة الصقيعية أيضا أن لا شيء يمكن اخفاؤه أو دفنه بسهولة، ولذلك هناك مجموعة من السيارات والقوارب والثلاجات وأحواض الاستحمام المتروكة تشوه القرى والسهول المحيطة على جانبي 
البحر.
تعد البؤر الاستيطانية في تشوكوتكا مصدرا للكآبة، فالميناء الذي كان يعج بنحو عشرة آلاف نسمة داخله وحوله تراجع الى ألفي ساكن تقريبا، وتبدو البلدة مثل الصدفة المتصدعة. وهناك محطة طاقة كبيرة وخربة تعمل بالفحم تغلق أبوابها في تموز وآب.
لا تمتلك البلدة فندقا مناسبا، بل مجرد رواق يحوي خمس غرف مع تجهيزات غسيل شعبية بالطابق الثالث من المبنى الخرب. وهناك مطعم صغير واحد فقط يخلو عادة من الزبائن، وتخدم البلدة شركة طيران حكومية 
بائسة.
على النقيض من ذلك بلدة نوم لاتزال تحظى رسميا بتوأمة مع الميناء مع أنها تعاني من المشكلات نفسها وهي البرد المخيف وفصل الشتاء الطويل وإفراط شرب الكحول وشعور مشابه بين السكان المحليين، الذين يشكلون أكثر من نصف عدد السكان البالغ عددهم 3700 نسمة، بتعرض لغتهم وثقافتهم
للتهديد. 
وهناك نقص بالمساكن وانتشار مياه المجاري ببعض القرى المعزولة.
لكن مع ذلك، ما زالت لديها نكهة البلدة الحدودية فهناك فندق جيد في نوم (تمتلكه مؤسسة محلية للسكان الأصليين) ومطاعم مزدحمة عدة (مطعمان منها يمتلكهما كوريون) وثلاث محطات اذاعة وكنائس نشيطة اضافة الى مكتبة ومتحف رائعين وصحيفة محلية تدعى "نوم ناغت" يصدرها زوجان جاءا من ألمانيا، ومتجرين كبيرين تعود ملكية أحدهما لكنديين. ومع أن سكان ألاسكا الأصليين تعرضوا في الماضي لتمييز عنصري بغيض، لكن حقوقهم تحظى بدعم قوي.
تحلق طائرة بوينغ كبيرة ذهابا وإيابا الى أنكورج يوميا، وتوفر طرق اتصال عالمية سهلة عبر شركة طيران محلية كفوءة تدعى "بيرنغ إير" والتي تشغل رحلات طيلة السنة الى ما لا يقل عن 32 قرية، بعضها صغيرة جدا في منطقة مضيق بيرنغ. 
ويأمل عمدة البلدة ريتشارد بنيفيل باستثمار فدرالي قدره 500 مليون دولار لتطوير ميناء نوم، طالما أنه صار خالياً من الجليد بسبب ارتفاع درجة حرارة القطب الشمالي وزيادة الرحلات البحرية المارة من هناك.
التهديدات مشابهة لحياة السكان الأصليين على جانبي المضيق، ففي تشوكوتكا هناك 14 ألف شخص من قبائل تشوكشي ممن يصطادون الحيتان وحصان البحر أوالرنة، وهناك 1500 من قبائل يوبيك يعيشون أساسا قبالة البحر ويتقاسمون الكثير من المعتقدات واللغة مع نظرائهم الإسكيمو في شمال ألاسكا وكندا وغرينلاند.
أصاب سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991 منطقة تشوكوتكا كلها بالقنوط العميق، وحتى المجاعة بسبب نضوب الاعانات وانهيار الادارة والتطهير العرقي ضد الروس والأوكرانيين ويشكلون غالبية السكان. 
ويوقع الروس في الوقت الحالي عقودا ذات رواتب أعلى بمرتين أو ثلاث مرات من غرب روسيا بسبب المعاناة ومن ثم يعودون الى موطنهم بعد سنوات قليلة. 
ويقول آخرون أن حبهم لتحدي العيش في البرية المقفرة والجميلة بالوقت نفسه دفعهم للبقاء هناك، وعبروا عن روحهم الوطنية كما 
هي حال نظرائهم في ألاسكا.
 
دور الأثرياء
أنقذ أحد أثرياء التعدين تشوكوتكا من الكارثة، وهو رومان أبراموفيتش مالك نادي تشلسي الانكليزي لكرة القدم. وأنتخب رومان عضوا لمجلس الدوما الروسي عن البلدة عام 1999، ومن ثم عمل حاكما لها بين عامي 2001 و2008، ولا يزال يحظى بالاحترام في المنطقة. عندما وصل رومان هناك شعر بالرعب من محنة ناخبيه ولذلك قدم ملياري دولار من ماله أو مال شركته، ووفر جزءا يسيرا من الصحة والتعليم والسكن وحتى الصرف الصحي للجمهور اليائس.
الغريب أن انهيار النظام السوفييتي للاعانات والنهاية المفاجئة لجهوده الخرقاء لتحويل رعاة الرنة وصائدي الحيتان الى مواطنين سوفييت ملتزمين، قد عززت الطرق التقليدية للعيش وصار حد الكفاف مجددا الوسيلة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة. ومع أن اللجنة الدولية لصيد الحيتان تمنع صيدها عالميا لكنها تستثني السكان الأصليين من جانبي مضيق بيرنغ وتسمح لهم بحصص للحفاظ على رزقهم.  ينال الصيادون مساعدات على شكل معدات ووقود وأحيانا رواتب من الدولة، بل أن كثيرين يذهبون بعيدا الى غرب روسيا أو يستسلمون للكسل والخمور. ويحاول بعضهم هزم شياطينهم، ففي اجتماع لمنظمة تعنى بعلاج الادمان على الخمور بإحدى قرى تشوكوتكا وصف عدة أعضاء تجاربهم العلاجية.
من جهتهم يواجه سكان ألاسكا المصاعب نفسها، وخصوصا ادمان الكحول والفقر: ففي أنكورج هناك ما لا يقل عن 33 اجتماع لنفس منظمة العلاج، ويعاني السكان أيضا للحفاظ على ثقافتهم ولغتهم، بعد محاولات البعثات التبشيرية المسيحية سحقها، ويتكلم المزيد الانكليزية. يتحسر عمدة نوم نقص وحدات السكن، ولا تمتلك بعض قرى منطقة مضيق بيرنغ نظام صرف صحي مناسب، أما متوسط دخل السكان الأصليين فما زال أقل بكثير من السكان البيض، وتشكل القبائل 15 بالمئة من عدد السكان لكنها غير ممثلة بشكل كاف في مجلس الولاية، الّا أن حقوقهم تحظى باحترام أكبر بكثير من الماضي.
يصعب الحصول على احصاءات اجتماعية مقارنة حديثة بين سكان تشوكوتكا وألاسكا، والسبب هو عدم اجراء الروس أي احصاء بعد آخر تحليل شامل مشترك "مسح ظروف المعيشة في القطب الشمالي" ونشر عام 2007 كمشروع للمجلس القطبي الشمالي وهو منتدى لكل دول القطب الثمان. وفي حالة اعادة تطبيق ذلك المسح اليوم فوضع تشوكوتكا سيكون أسوأ على الأرجح بسبب الشعور بالضياع بعد مغادرة الملياردير أبراموفيتش.
 
تناقضات بيرنغ
كشف تقرير المسح الأخير اختلافا جذريا في المواقف، اذ أبدت الغالبية العظمى من سكان تشوكوتكا عدم رضاها عن سؤال بخصوص تأثيرهم على ادارة الموارد الطبيعية مثل السمك والنفط والمعادن والبيئة، على العكس من سكان ألاسكا. أما معدل أجور سكان ألاسكا من جميع العرقيات فأعلى بكثير من سكان تشوكوتكا، لكن تكاليف المعيشة متشابهة. الّا أن الاختلاف الأكثر وضوحا هو الحصول على الفرص، فمدينة تشوكوتكا تندر جدا الفرص داخلها ومازالت تفتقر لخدمة انترنت جيدة ناهيك عن البنية التحتية المناسبة. مع عدم وجود طرق حقيقية على الجانبين، فشبكة طيران ألاسكا الأفضل تمكّن الجميع من الانتقال بسهولة، اذ تمتلك أكثر من 8200 طيار مرخص وهي أعلى نسبة بجميع الولايات الأميركية، وربما في العالم. اذا وجدت الحرية الجوية نفسها بتشوكوتكا فامكانيات السياحة المترفة هناك ستشهد تحولا كبيرا، لكن المنطقة كانت مغلقة حتى وقت قريب ويصعب حتى على المواطنين الروس دخولها.  الفارق الكبير الآخر هو الديمقراطية، فعلى الرغم من جهود أبراموفيتش لكن المنطقة لم تتعاف بعد من 100 سنة تقريبا من القمع السياسي وسوء الادارة الشيوعية التامة. ولا تمتلك المدينة صحيفة أو اذاعة مستقلة، وينتخب السكان ممثليهم لكن القرارات المهمة بشأن توزيع الاعانات تتخذ في موسكو. 
من المأساة لتشوكوتكا أنها أقتطعت سابقا عن ألاسكا، وفي ظل المناخ السياسي الحالي فلن يذوب الستار الجليدي قريبا. وأخبر العمدة أبراموفيتش ذات يوم نظيره عبر المضيق أنه يحب محاكاة نموذج ألاسكا.