(شِعريّة الكتابة)

ثقافة 2018/11/23
...

رعـد فاضل
(1)
ما الشِّعر. فحم أم ماس؟. 
ولكن هل للفحم والماس سحرٌ سوى ذلك التّحوّل من الشّائع (الأصلِ) تحت ضغط هائل من التفاعلات إلى النّادر (المستنبَطِ المبتَـكَر) الثّمين؟. وأيضاً ما هذا السِّحر الذي نسعى بكَـدّ إليه سحرُنا في الشِّعر، أم أنّ للشّعر سحراً فينا؟. من جهتي في الأقلّ حتّى الآن هو قصيدة النّثر لأنّها القوّة الجماليّة المعرفيّة التي تبحث في جماليّات وثقافات العالم والإنسان والأشياء بحثَ مُتَـقصٍّ مُكتنِه راءٍ لتؤسّس لأشكال افصاحٍ دائمة التّحوّل للتعبير عن تلك الجماليّات والثّـقافات. وبهذا يكون الشّعر وفقاً لهذه الرؤية هو عيشنا الجماليّ والثقافيّ الذي ليس لنا نحن شغِّيلتَه وجود شخصيّ مائزٌ من خارجه. الشّعر بوصفه سحراً هو ما لا نخفيه وما لا نعلنه كي يظلّ ساحراً ونظلّ ساحرين به ومسحورين، وبما أنّه وهمٌ لأنّه سحرٌ فلا يمكن مطالبته بما هو خارج وجوده اليوتوبيّ هذا. من هنا تظلّ القراءات والدّراسات الدّارجةُ للشّعر في معظمها مسترخية وغالباً ما تكون جبانةً لأنّها لا تجيد ألعاباً مثل هذا النوع من السِّحر. ذلك هو سحر الشّعر الذي ما عاد مُتعيّناً عليه أن ينجز المعنى ذاتَه بل التباسات هذا المعنى وحدوسه وآثارهُ، هذه الالتباسات والآثار التي هي أقرب ما تكون إلى الصّوفيّة التي تتناغم فيها حركاتُ المُتناقضات: العلويّ بالأرضيّ، الباطنيّ بالظاهريّ، العميق بالعائم، والعالَم بالكائن. شبكةُ علاقاتٍ من الادهاش والسّحر الجماليينِ والمعرفيين. 
ذلك هو الشّعر بوصفه أرومَة سحريّة مُتعذّرةً على كلّ سطحيّة للفهم لأنّه تشرّب بالميتافيزيقيّات (السِّحريّات) فصار مدهشاً بعد أن صار رائياً، وصار عَرَضاً بعد أن كان جوهراً ثابتاً. صار عابراً لحدود سحر جنسه إلى أسحار الكتابةِ (قصيدة النّثر) التي ليس لها جنس بعينه، عابراً إلى شِعريّة الكتابة. وليظلّ سحريّاً لا بدَّ أن يظلَّ فعلاً لازماً كونه قوّة مهذَّبة وغيرَ معقولةٍ، كونه نابعاً من عجزنا عن تفسيره تفسيراً نهائياً وحاسماً وكذلك من قدرتنا على تأويله دائماً بأشكال ودلالات عدّة متباينة ومتواصلةٍ، كونه في الوقت نفسه موجوداً من خلال علاقاته مع ما حوله بوصف هذا الماحول فعلاً متعدّياً. من هنا يأتي التعلّق بالشّعر سحريّاً لأنّه رؤيا شمولية وشخصيّة معاً في النّظر إلى اللغة والمعرفة والعالم والإنسان والأشياء. إنّه بكلمةٍ: مثير اشكاليات لا واضعَ حلول. الشّعر يتطلّب اكتشافاً مستمرّاً وتخليقاً لأساليب تنسجم وهذا التّطلّب بسببٍ من أنّ هذه الأساليب بوصفها أشكالاً لا بدّ وأن تتحوّل إلى أعراف ترسَّخُ استخداماً بعد آخر فتضربها القَدامةُ، وما من سحرٍ البتّة في كلّ قالب وعُرفٍ وتقليد. 
سحر الشّعر يكمن في التّحوّل والغرابة والدّهش والذّهول واللعبِ في الأعماق بالجواهر ومعاشرةِ عرائس البحر والجنيّات وترويض الكواسج وتلقين الدّلافين دروساً في الدّهاء. سحر الشّعر أن يتعلّم العالَم قراءة طوالع المجهول وفكّ طِلِّسماتهِ. من هنا يتموّن الشِّعر بسحره، ومن هنا أيضاً لا حدَّ نهائيّاً لأشكاله وأساليبه وطرق تعبيرهِ، غير أنّ هذا السّحر لا يعني أن يلعب: (فوقَ) ذلك أنّ هذا اللعب لفوقيّته سيجعل الشّعر منعزلاً ومضجراً، كما أنّ لعبه: في (العمق) سيجعله منقطِعاً عن العالَم، مثلما أنّ عَـوْمه على (السّطح) سيجعله مألوفاً ساذجاً ومبتذلاً. 
في هذا الضّوء لقصيدة النّثر: الشّعر حرثٌ في الاتّجاهات كلّها، وسَيّارٌ طيّار مَشّاء عوّام غوّاص وكشّافٌ في آن. من هنا يكون أعمق ما يتبنّاه الشّعر هو تلك الطبقات المسكوت عنها من العيش والثقافة والتّاريخ، من الأسطورة والواقع، من المألوف المُتحوّل إلى لا مألوف، أي من المُختلِفات والمُؤتلِفات في آنٍ معاً. سحر الشّعر: تَـشبِيح للأشياء لتكون مذخّرة بالدّهشة والمعرفيّة والجماليّة. 
 
(2)
 إنَّ خروج الدّال الشعريّ إلى البريّة هو بالمعنى اللّازب للكلمة خروجُ المدلول نفسه إلى البرّية. وما تعثّر أغلب قراءاته العامّة والنقديّةُ منها إلّا بسبب من مفترقات هذا الخروج وانعطافاته مما عطّل فاعليّة هذه القراءات التي يمكن تسميتها بالدّارجة المنزلية لانحراف الطريقة الشعريّة عن دارجها هذا الذي ضربته البيتوتيّة والسّكونيّةُ فتحوّل بالتّـقادم من مُنتِج  إلى مُنتَج مُستعاد. وما هذا الخروج بالتّالي كما رآه (هيث) إلّا (( تأسيس صيغة لكتابة تحرث اللغة، مخلِّفة شكّاً، وجاعلةً المدلول يترنّح دوماً في الدّال، لكي تبلغ في كلّ لحظة دراما اللغة نشاطَها المُنتِج)).
الشّعر هنا عندما يكون قصيدة نثرٍ هو قبل كلّ شيء حياكة وتطريزٌ يدويّان فريدان ولكن وفقاً لما تقدّم، ووفقاً لتلك العلاقة ما بين المُسمّى: الإنسان. الواقع. الحضور. الطّبيعة. الحياة. التاريخ...، وغير المُسمّى: المجهول. الغياب. الشّعر بوصفه قصيدة نثر سيرورة غير أنّها دائمة التّحوّل تؤسِّس لسحرها هذا وترسّخ له لتكون كتابة نوعيةً من الفِكْر والشكل الفعّالينِ، ولتكون بالمغزى الأكثر خصوصيّة وسحريّةً للكلمة شعراً لا يُكـتَـب بالعادة ولا يُتلقّى بالتّداول على وفق الدّارج ولا بالاسترخاء. ولكن أليس جوهر الأشياء فلسفيّاً بطبيعته ثابتاً كونه لا يتجزأ، وهذا لا يمكن أن يعني إلّا تناقضاً في تكوين الشّعر كونه واحداً من هذه الأشياء؟. إذاً أين تكمن المقاومة، مقاومة الوجود الشعريّ لمثل هذا التآكل أو الانعدام الذّاتي؟!. من هنا جواباً على ما تقدّم يجيء التأكيد على الكتابة والقراءة السّحريتين للشعر إذ إنّ السّحر لا جوهرَ ثابتاً له ذلك أنّه (عَرَض) دائماً. من هنا الشّعر بوصفه قصيدة نثر في تحوّل دائم من جوهريّته إلى عَرَضيّته كون العَرَض في حركة دائبة وفي سيرورة متبدِّلة، وهو بهذا متحرّك الجوهريّة إنْ جاز التّعبير على العكس من الجوهر الأصيل للشّعر بعامّة الذي عندما تشكّل أوّل مرّةٍ لم يتغيّر ولم يتبدّل كونه فاقداً لحركيّة دالّه ومن ثمَّ فَقَدَ حركيّة مدلوله.