{الأيرلندي} حلم سيكورسيزي الأثير

الصفحة الاخيرة 2019/12/03
...

علي حمود الحسن
تسنَّتْ لي، مؤخرا، رؤية رائعة مارتن سيكورسيزي “الايرلندي” الذي احتاج أكثر من عشر سنوات لإخراجه، بعد ان عجز في اقناع شركات هوليوود بتمويل انتاجه، لكن شبكة نتفليكس بادرت بتوفير 160 مليون دولار ليرى حلمه الاثير النور، فقدم عملا ضاجّا بالحنين الى أفلام عصابات المافيا التي برع بإخراجها، شرط عرضه  من خلال خدمة البثّ الحي والفيديو حسب الطلب، وهذا ما ارتضاه صاحب “عصابات نيويورك”، خصوصا وان جزءًا لا بأس به من ميزانيته يذهب لشراء برامج وتقنيات (سي جي آي)  لتعديل ملامح الشخصيات، وهي ذات التقنية التي استخدمها المخرج ديفيد فينشر في عودة بنجامين من شيخوخته الى شبابه في فيلم “الحالة المحيّرة لبنجامين بتن”، وهو من تمثيل روبرت دي نيرو، وآل باتشينو، وجو بيشي، واني بكوين، وكتب السيناريو له ستيفن زايليان (عصابات نيويورك) عن مذكرات تشارلز براندت، التي دوّن فيها الحياة التراجيدية للزعيم النقابي جيمي هوفا. 
وبنسق سردي يتداخل فيه الحاضر والماضي والمستقبل، قص علينا سيكورسيزي الحياة الحافلة والتراجيديا لفرانك شيران (روبرت دي نيرو) سائق الشاحنة والجندي السابق، الذي يدخل عالم المافيا الرهيب، حارسا شخصيا وصديقا حميما لجيمي هوفا (آل باتشينو) رئيس اتحاد العمال الاميركي، صاحب الحظوة والشهرة، التي لا تقل عن شهرة الفيس بريسلي، ينفذ فرانك ما يطلب زعماء العصابات، الذين يتخذون من عملهم النقابي غطاء لأعمالهم الإجراميّة، بلا نقاش ومن دون رحمة، ولا يهمه مصير الضحية، حتى لو كان صديقا حميما، ربما تردد كثيرا حينما كلفه عرابه جو بيشي (راسل بافلينو) بإنهاء حياة  صديقه الحميم هوفا، لكنّه يقتله بدم بارد ويتصل بزوجته التي تلتجأ اليه بوصفه الصديق المقرّب، ليعلمها أنّه اختفى وسيعود قريبا، بروتوس آخر، لكنّه هنا لم يمنح القيصر ولو نظرة عتاب.
  أحداث محتدمة على مدار ثلاث عقود، يفرشها سيكورسيزي معتمدا على عبقرية كاتب السيناريو الأثير لديه ستيفن زايليان صاحب “عصابات نيويورك”، و”قائمة شندلر”، الذي قدّم  سردا متداخلا ينتقل فيه ارتدادا الى الزمن الماضي، او الى الامام باتجاه المستقبل، او راهنا في الزمن المضارع، رابطا كل ذلك بواسطة راوٍ مشارك في الاحداث وشاهد عليها، فنحن نرى فرانك في آخر أيامه يقبع في مصح ينتظر نهايته الوشيكة وحيدا إلّا من ذكرياته الدامية، وهو يحكي قصته مع هوفا وجيمي ورفاقه من القتلة المتوحشين.
ركّز سيكورسيزي على محنة الفرد وهو ينساق مطيعا الى جحيم المافيات، فالقتل بالنسبة لفرانك مهنة لا تختلف عن غيرها، هو متفانٍ لأسرته ولأخوته المافويين ونظامهم الصارم، وهو متلعثم وخجول، ومحارب قديم ينفذ الأوامر بقلب بارد، قاتل متوحش، ربح العالم لكنّه خسر نفسه وأسرته، لكنّه لا يقر بذنبه، فالقتل مهنته، هذا الشخصية الملتبسة جسّدها روبرت دي نيرو في واحد من أعظم أدواره.
وقدّم آل باتشينو اداءً استثنائيا- في خريف عمره- مجسّدا شخصية جيمي هوفا رئيس نقابة سواق الشاحنات، صاحب الكاريزما والحضور الطاغي، الذي يرقص مع الذئاب بقلب طفل، عدو روبرت كندي وأخيه جون الذي خذل عصابات المافيا وتنكّر لمن اوصله الى رئاسة أميركا.
“الأيرلندي” فيلم متكامل أخرجه واحد من أهم صناع السينما في تاريخ السينما، كلّ شيء فيه مبهر، ابتداءً بالتصوير ومرورا بالأزياء والمكياج بواسطة التقنية الرقمية لتغيير الملامح، وانتهاءً بالموسيقى، وهذه العناصر أرجعتنا الى أيام الاربعينيات والخمسينيات والستينيات، وقدمت لنا قصصا من الماضي ما زالت تتجدد وتتناسل بأقنعة وأساليب
جديدة.