مفكر وخاطرة!

الصفحة الاخيرة 2019/12/04
...

 جواد علي كسّار
تعرفت على اسمه وكتاباته سنة 1980، ورحت اقرأ له ما يقع بيدي، ولم يتجاوز ما قرأته له حينذاك المقالات التي كان ينشرها في الصحف والمجلات العربية. بعد ذلك بسنة أو سنتين اطلعت له على كتابين، هما: «الإسلام في معركة الحضارة» و«الإسلام وتحديات الانحطاط المعاصر» وقد أبهرني بوثوقية رؤيته وإيمانه العميق بالمنطلق الإسلامي في المعالجة، وصفاء الرؤية ونقائها مع حداثة انتمائه لهذا الدين.
أعترف بأنني لم اطّلع على كتاباته وما أصدره بعد ذلك إلى أن التقيت به شخصياً مطلع التسعينيات من القرن العشرين، فوجدته بهيّ الطلعة، شخصيته قوية متماسكة، تخفي عيناه التي تطلّ علينا من وراء نظارات سميكة، حزناً مكتوماً عميقاً ليس على بلده المحتلّ فلسطين، والقدس مدينته ومرتع صباه، بل على مآلات الواقع في بلاد العرب جميعاً.
لذلك كلّه ركزت مع منير شفيق على الثقافة والفكر وحدهما، وعرضت عليه مجموعة من الأمور الفكرية التي كانت تشغلني يومذاك، من قبيل التنمية والاستقلال السياسي، الأخذ من الغرب في بناء بلداننا، وهل يمكن بالفعل أن نأخذ تكنولوجيا الغرب بعيداً عن قيمِ حضارته، وكيف يكون إعلامنا مؤثراً، ولماذا فشل إعلامنا في التأثير على جمهوره؟ كما كنت مشغولاً بقضية الاستقلال المنهجي، وهي قضية أنفقت فيها وقتاً طويلاً في الحديث عنها مع منير شفيق.
كما كنت مشغولاً بعمق في الإفادة من الرصيد الفكري والمنهجي لشفيق في التعامل مع كتابات محمد عابد الجابري ومحمد آركون وطيب تيزيني وحسين مروة وأضرابهم، تلك الكتابات التي كانت قد ملأت الساحة الثقافية العربية بمضمونها ومناهجها ومصطلحاتها وإشكالياتها وإثاراتها وأصدائها بعد أن انبسطت لها وسائل الترويج الثقافي والإعلامي.
أشهد أنه كان عميقاً، يحمل اللقاء معه الكثير من النفع، واثقاً من نفسه، يرد باختصار ممزوج بالثقة العالية بما عنده. كنت أحسّ في شخصيته الهادئة ومظهره الوادع الرزين، الكثير من القلق الداخلي، وثورة مضطرمة داخل الذات، ناشئة عن إحساس بالظلم والحيف والغبن. فلو كان منير شفيق ينتمي إلى بلد غير فلسطين، ولو احتضنته مؤسّسات البلد المفترض، لأصبح نجماً من نجوم الثقافة والفكر، وشخصية سياسية قيادية مؤثّرة، لا أشك في ذلك أبداً.
لمست أنه يخفي وراء هدوئه موجاً داخلياً عظيماً يتلاطم بين جغرافية الذات والواقع المرير، وكنت أحسّ أنه يعيش داخلياً إحساساً عميقاً بالحيف رغم عمقه وامتلائه في تاريخه النضالي، وكتاباته يوم كان ماركسياً وعندما تحوّل إلى الإسلام. حدّثني في لقاءاتي معه عن مدينته القدس، وانه ولد فيها سنة 1934 لأسرة مسيحية، ثمّ كيف دارت به الأيام ليتحوّل إلى الإسلام.
أعترف مرة أخرى بأنني لم اقرأ له بعد ذلك اللقاء غير كتابه «تجربة محمد علي الكبير: دروس في التغيير والنهوض» وذلك في إطار اهتماماتي المكثّفة، عن فشل ونكوص تجارب التنمية والنهوض في البلدان العربية كما حصل مع مصر والعراق والجزائر، ونجاحها في المحور الأعجمي من بلدان المسلمين، كما حصل في ماليزيا وباكستان وإيران وتركيا، إلى جوار بقية التجارب الناجحة في آسيا وفي مقدمتها اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وبقية نمور آسيا.
ما دعاني إلى استذكار هذه الواقعة مع منير شفيق، هو كتابه: «تجارب ست ثورات عالمية» والأهمّ من الكتاب نفسه، هي المقدمة المهمة حول الثورات عموماً، وما شهده العالم العربي ولا يزال، بعد 2011 من حراك شعبي انطلق من تونس ومصر وليبيا واليمن، والآن في الجزائر ولبنان والعراق، ما يستدعي وقفة مع أبرز أفكاره، نتركها لفرصة قادمة.