حدٌّ فاصلٌ بين الموت والحياة
علوم وتكنلوجيا
2019/12/06
+A
-A
فايز صدّيقي
ترجمة / انيس الصفار
يقول الخبراء إننا كي نفهم مدى التعقيد في برمجة السيارات ذاتية القيادة علينا أنْ نتخيل غزالاً وأيلاً وبقرة، كلها حيوانات لبونة ألوانها ضاربة الى الحمرة ولها أربعة أرجل وقد يلوح لنا أيٌ منها متمشياً على جانب الطريق.
مكمن الاختلاف هو أنَّ السائقين البشريين يعلمون بالفطرة أنَّ هذه الحيوانات يمكن أنْ تتصرف بطريقة مختلفة عن بعضها، أما الآلات فلا تعلم ذلك.
تدريب خاص
يقول داني شابيرو، (المدير الأعلى في شركة "إنفديا" للسيارات ذاتية الحركة)، وهي الشركة التي تعمل على تطوير تكنولوجيا القيادة الذاتية: "ما لم يتلق النظام تدريباً خاصاً على التشخيص فإنَّ كل ما سيميزه هو أنَّ هنالك جسماً يسير، ولكنه لن تكون لديه أدنى فكرة عن كيفيَّة سلوك ذلك الجسم أو الأفعال التي يمكن أنْ تصدر عنه".
تمييز أي الحيوانات يمكن أنْ تندفع فجأة الى عرض الشارع يمثل جزءاً ثابتاً في النضال الهندسي لتلقين السيارات المزودة بالذكاء الاصطناعي وتمكينها من تشخيص هذا النوع من الفوارق.
تتسابق الشركات، مثل "وايمو" المملوكة لـ"ألفابيت" وفرع "كروز" التابع لشركة جنرال موتورز و"أبتف" المرتبطة بشركة "لايفت"، من أجل تدريب سياراتها على قيادة أنفسها في مدن "سليكون فالي" و"فينكس" و"لاس فيغاس" وغيرها من المدن الأميركية، في إطار رؤية متصورة لإلغاء الحاجة الى امتلاك سيارة وتحديث الطريقة التي يتنقل بها الناس تحديثاً ثورياً، الأمر الذي سيكون عوناً قيماً لكبار السن بشكل خاص.
بيد أنَّ المخاطر الكامنة في جوهر هذا العمل عديدة وحجم المعلومات التي ينبغي تدريب المركبة عليها يمثل تحدياً هائلاً.
الرادار والليدار
في مطلع الشهر الحالي تكشفت الى الضوء ضآلة ما تعرفه هذه السيارات، إذ أظهر تحقيق أجراه المجلس الوطني لسلامة النقل في حادث اصطدام أسفر عن مقتل شخصٍ ارتكبته سيارة تابعة لشركة أوبر أنَّ هذه السيارة لم تحسن التمييز والفرز بين الشخص الماشي على قدميه والسيارة والدراجة، كما أنها لم تتلق برمجة تُنبئها بأنَّ المشاة يمكن أنْ ينزلوا الى مجرى الشارع خلافاً لإشارات المرور.
تستخدم المركبات ذاتية الحركة نظاماً يجمع بين الرادار والليدار (وهو مجموعة معقدة من المتحسسات التي تستخدم أضوية الليزر لرسم خارطة عامة للبيئة المحيطة)، بالإضافة الى كاميرات عالية الدقّة لتحديد صورة المحيط المباشر. فكلما صادفت السيارات من هذا النوع جسماً جديداً تجري معالجة سريعة لصوره التي تلتقطها، وهذه المعالجة يقوم بها نظام الذكاء الاصطناعي في السيارة من خلال مراجعة خزين واسع من الصور المرجعيَّة لأجسام مشابهة من أجل التوصل الى كيفيَّة التعامل مع هذا الجسم الجديد.
لكن سيناريوهات التعامل المحتملة مع الجسم بعد التعرف عليه يمكن أنْ تصل الى الآلاف، لأنَّ كبير السن قد يكون أبطأ حركة من شاب يعدو، والبقعة الداكنة التي على الطريق يمكن أنْ تكون ظلاً أو بركة ماء أو فتحة مجرى بلا غطاء، والصور المنعكسة على واجهات المباني اللامعة يمكن أنْ تشوش الأمر على السيارة حين ترى انعكاس صورتها فجأة فكأنها قد واجهت نفسها.
افتراض ساذج
يبدو المهندسون أحياناً وكأنهم يبرمجون لما ينبغي أنْ تكون عليه الأمور وليس لما هي عليه فعلاً، كما تقول سالي آبلن (وهي زميل باحث في علم الإنسان تعكف على دراسة التداخلات بين السلوك البشري والخوارزميات والأخلاقيات المهنيَّة)، تقول آبلن: "يبدو أنَّ هناك افتراضاً ساذجاً بشأن القواعد المختلفة، هذا الافتراض يتخيل أنَّ العالم يجب أنْ يكون على نحوٍ ما تحدده له القواعد وليس بالضرورة على نحو ما هو عليه في الواقع".
حادثة أوبر بالذات أصابت مجتمع المركبات ذاتية الحركة بالخيبة والإحباط، حيث يخشى كثيرون من أنْ تسفر بضعة حوادث اصطدام وتحطم مشابهة الى فرض الجهات المعنيَّة ضوابط وأنظمة أشد صرامة تعيق تطور هذه الصناعة.
وقعت الحادثة المذكورة في شهر آذار 2018 عندما صدمت سيارة أوبر فتاة في مدينة تيمب بولاية أريزونا كانت تعبر الشارع ومعها دراجتها خارج خطوط العبور في شارع ضعيف الإنارة وتسبب الحادث بمقتل الفتاة. أما سائقة السيارة فكانت منشغلة بالنظر في هاتفها، على حد تقرير الجهات المسؤولة. التقط رادار السيارة ظهور الفتاة، واسمها "إيلين هيرزبرغ"، قبل ست ثوان من الاصطدام ولكنَّ منظومة القيادة الذاتيَّة لم تنجح في تصنيف صورة الجسم التي التقطتها فلم تتعرف عليه، وبالتالي لم تعرف كيف تتصرف.
قرار محدد
من المقرر أن يجتمع "المجلس الوطني لسلامة النقل"، الذي لم يحدد بعد السبب المحتمل لوقوع الحادث، في وقت لاحق من هذا العام لاتخاذ قرار محدد. ورد في تقرير المجلس المذكور ما يلي: "المشاة خارج مناطق العبور المخصصة ليس لهم تعريف واضح محدد يميزهم"، معنى هذا أن السيارة لم يكن باستطاعتها استقراء المسار الذي ستسلكه الفتاة كما لو كانت ستفعل لو شخصت منذ اللحظة الأولى أنَّ هذا إنسان يسير ضمن منطقة عبور مخططة. لذلك اختلط عليها التعريف، فاعتبرتها مركبة ودراجة و"أجسام أخرى" في آنٍ واحد.
في تقارير السلامة الطوعيَّة التي قدمتها شركات مثل "وايمو" و"أورورا" وكروز وفورد خلال العامين 2018 و2019 أورد الجميع إشارات لتعريف المشاة خارج خطوط العبور أو ظاهرة العبور خلافاً لقواعد المرور أو السابلة الذين يسيرون خارج خطوط المشاة. أما تقرير شركة أوبر، الذي قدم في تشرين الثاني 2018، فلم يتضمن مثل تلك الإشارات.
ما أورده تقرير أوبر بخصوص المشاة كان نظاماً اكثر تعقيداً بكثير مما كشفه الواقع في أريزونا. قال التقرير: "العناصر والاجسام، مثل المركبات والمشاة والدراجات والحيوانات، يتوقع منها أن تتحرك، وبرمجياتنا تنظر وتحسب كيفيَّة تحرك هذه الأجسام والعناصر ووجهتها للثواني العشر التالية. فمركباتنا ذاتيَّة الحركة لن تعمل في فراغ".
تقول سارة عبود، المتحدثة باسم "أوبر"، إنَّ الشركة تعبِّرُ عن شديد أسفها لحادثة الاصطدام وإنها قد أجرت تصحيحات واسعة على وحدة القيادة الذاتية منذ تلك الحادثة، واضافت أن أوبر قد تبنت معالجات حساسة لبرنامجها للارتقاء بمستوى السلامة كأولويَّة، على حد تعبيرها.
إغفال برامجي
رغم هذا بقيت اصداء تأثير ما يسميه البعض "إغفالاً برامجياً صارخاً" تتردد في "سليكون فالي".
يقول "براد تمبلتون"، وهو مطور طويل الباع في مجال السيارات ذاتية القيادة ومستشار سبق له العمل في مشروع غوغل للسيارات ذاتية القيادة قبل نحو عقد من الزمن: "إنه لأمر محير. لقد كان الجميع موقنين أنَّ الحوادث لا بدَّ أنْ تقع في نهاية المطاف، إذ ما من أحد يتوقع الكمال، لكن الذي وقع كان أسوأ مما تخيله الكثيرون".
يقول عديد من المطلعين على بواطن صناعة السيارات ذاتية القيادة إنهم يشعرون بالدهشة، إذ إنَّ أوبر لم يسبق لها التصريح بمثل هذه التوقعات المهمة. يقرُّ هؤلاء أيضاً بأنَّ المدى الزمني المطلوب قبل إطلاق هذه التكنولوجيا قد يكون أطول مما يتوقعه كثيرون بسبب طبيعته المعقّدة.
تدريب الذكاء الاصطناعي
سبق للتكنولوجيا التي تستعين بالذكاء الاصطناعي، مثل تكنولوجيا تشخيص الوجوه والمساعد الصوتي، ان اجتذبت اليها الانتقادات بسبب أمور شتى، مثل الانحياز البشري المدمج وخلل المنطق. نتيجة لهذا اخذ الباحثون الميدانيون يدعون الى توخي مزيد من الحذر والتنويع حين يتعلق الأمر بتدريب الذكاء الاصطناعي، وخصوصاً المركبات.
المطلوب الآنْ أن يكون هناك مزيدٌ من خبراء "المجاميع المركزة" و"المجاميع المختلطة" الذين يركزون على مهمة إعداد خارطة بالسيناريوهات المختلفة، كما تقول كاتينا مايكل (الأستاذة في معهد مبتكرات المستقبل بجامعة اريزونا): "من الواجب زج مزيد من مهندسي الأمان والمهندسين الميكانيكيين للعمل على جانب التشفير بموازاة مهندسي البرمجيات، ومن بعد ذلك يجب إخضاع الأمر كله للمطابقة المناظرة والمراجعة على يد خبراء متعددين".
تقول مايكل إننا حين ننظر الى سيناريوهات الحياة الواقعية نجد أنَّ أكثرها وضوحاً ووجوباً لم يتم التصدي له حقاً. وتضيف: "حين لا نخطط لهذا السيناريو ولا نبذل جهداً موسعاً على خط المواجهة مع الحياة الواقعية فإنَّ هذا هو ما سيقع".
طبقة احتراز اضافية
يدفع البعض اكثر باتجاه "المحاكاة بعيداً عن الشارع" باعتبارها طبقة احتراز اضافية. ففي شركة "أبلايد إنتوشن" للتكنولوجيا يعمل فريق من 50 متخصصاً، بينهم متخرجون من شركات مثل "وايمو" و"أبل" و"تيسلا"، في تصميم برامج محاكاة للسيارات لاختبار السيناريوهات قبل إخراجها الى العالم الواقعي.
تقاطع واحد في المدينة يمكن أنْ ينطوي على ما لا يقل عن مئة ألف سيناريو، كما يقول قصار يونس مؤسس شركة "أبلايد إنتوشن"، وهذه السيناريوهات ينبغي محاكاتها والتحسب لها قبل إنزال أية مركبة الى العمل بأمان في الشارع.
يقول يونس إنَّ العاملين على برامج المحاكاة، الذين يمدون شركات انتاج المركبات ذاتية الحركة ببرمجياتهم، يريدون اجراء الاختبارات على ما يسمى "حالات الحافة الحرجة" وهي مواقف واوضاع في العالم الواقعي قد لا تقع إلا مرة واحدة في المليون، ولكنها متى ما وقعت تكون قاتلة على الارجح.
يعطي يونس مثالاً على حالة من هذا النوع حين تصادف شاحنة نصف مقطورة سيارة متوقفة على جانب الطريق في لحظة مواجهتها لهبوب رياح متعامدة على الطريق السريع. في البداية لا تتمكن الشاحنة من رؤية السائق وهو يظهر من وراء سيارته المتوقفة على كتف الطريق، كما يضطرها دفع الريح من الاتجاه المعاكس الى التمايل في سيرها والاقتراب من جانب الطريق نحو سائق السيارة.
يقول يونس: "هذا سيناريو لن يسرك أن تراه قيد الاختبار في العالم الواقعي".
عن صحيفة نيويورك تايمز