حسن العاني
اكثر من عشرين سنة امتدت ما بين 2 /1 /1965 وحتى نهاية عام 1985، هي تجربتي مع مهنة التعليم، حيث اضطرتني ظروف قاهرة لا مجال للخوض في تفاصيلها الى احالة نفسي على التقاعد لأسباب صحية، ولم يكن الحصول على التقاعد في مثل عمري يومها ممكناً لولا الوساطات التي لا اول لها ولا آخر، حيث تم تزويدي بتقارير طبية لم تترك مرضاً اكتشفه الطب الحديث الا والحقته بي، حتى ان رئيس اللجنة الطبية- وكان رجلاً ميالاً الى المزاح – سألني "أستاذ كيف وصلت الى اللجنة" قلت له بالمركبة طبعاً، من دون ان اتبين ما يخفي سؤاله، فلما انتهيت من اجابتي قال لي "تعرف استاذ .. إنت على هذي التقارير يفترض ان تكون ميّت قبل اربع سنين" وفيما ضحك اعضاء اللجنة بأعلى اصواتهم، كنت ارتعد خوفاً – برغم ابتسامتي المفتعلة – فربما يعترضون ، ولكنهم وافقوا على طلبي...
لا شك ان عقدين من التعليم كانا غنيين بالتجارب المنوعة، سواء على صعيد التلاميذ ام على صعيد الادارة والمعلمين، ورسخت في ذهني مئات السلوكيات والتصرفات من الكبار والصغار، الى جانب عشرات الشخصيات التي تتمتع بنكهة متميزة تمنحها قدراً من الخصوصية، لعل واحدة منها لم تغادر ذاكرتي برغم الزمن البعيد.
انه النصف الاول من سبعينيات القرن الماضي، والمدرسة هي (الصديق الابتدائية للبنين)، اما المعلم فهو صديقي الاستاذ (...)، رجل عامر بالتواضع والرزانة، الى جانب الاخلاص في اداء عمله بصورة لافتة للنظر... كان النظام المدرسي يومها (لا أدري ان بقي على حاله ام تغير) يقضي بأن يتولى كل يوم معلمٌ مهمة الوجود في ساحة المدرسة وعدم الذهاب الى غرفة المعلمين في اثناء (الفرص) بين الدروس، يتولى الاشراف والرقابة على حركة التلامذة والعابهم، وفضّ منازعاتهم ومشاكساتهم التي لا اول لها ولا آخر، وقد لاحظت الادارة كما لاحظنا جميعاً بأن (يوم المراقبة) الذي يتولاه المعلم (....) يكون حافلاً بالمشكلات... تلميذ يتعرض الى خدوش، وتلميذ بأنف ينزف، وتلميذ يجرح في مكان ما من جسمه، وتلميذ.. بل تلاميذ عديدون لا يراجعون المعلم المراقب وانما يقصدون المدير او المعاون لطرح تظلماتهم...
حصل مرة ان إحتجت صديقي الاستاذ (....) وهو في يوم مراقبته، للاستفسار منه حول قضية ضمن اختصاصه، وهكذا رحتُ اتخطى معه في الساحة، وقبل ان ابدأ باستفساري وصل احد التلاميذ بقميص ممزق يعلوه التراب وتقدم بشكوى ضد التلميذ (فلان) فما كان من المعلم (...) الا ان نفض التراب عنه وقال له "فلان على خطأ.. ليس له حق .. أنت صاحب الحق" وانتظر التلميذ اي اجراء (عقابي) على المعتدي ولكن المعلم (اعتبر) الموضوع قد انتهى عند هذا الحد، وعلى الفور جاء تلميذ آخر وهو يبكي لان التلميذ (فلان) سرق الدرهم الذي معه فما كان من المراقب الا ان قال له "عيب وحرام.. فلان ليس له الحق.. أنت صاحب الحق" وكانت هذه الجملة هي الاجراء الوحيد الذي اتخذه المعلم.. الشيء المهم الذي اكتشفته، ان قلة قليلة من التلاميذ هي التي تراجع الاستاذ (...) بعد ان عرفت حلوله الترقيعية الواهية فصارت تأخذ حقها بيدها ، ولذلك كان يوم مراقبته يعدُّ يوم تعب للإدارة والمعلمين والتلاميذ!!