بالروح بالدم!

الصفحة الاخيرة 2019/12/11
...

 جواد علي كسّار
واقعة كأنها حدثت بالأمس، مع انه تفصلنا عنها عشر سنوات وأكثر، فهي تعود تحديداً إلى الشهر الأخير من عام 2007م؛ على وجه الدقة إلى اليوم الثامن منه. كانت فاجعة ما زلت أذكر كلّ شيء بتفاصيله الحادّة، لا يعزب عن الذاكرة منه شيء أبداً. هو واحدٌ من الشباب الذين حصدتهم آلة الإرهاب، لم تزد سنيّ عمره على العشرين إلا ببضعة شهور، مهندس في السنة الأخيرة، كان يجمع بين الدراسة والعمل الإعلامي، كشفت الصور في «ألبومه» الشخصي، أنه قد انتهى من مراسم حفلة التخرّج، وكان يُخطط كما قرأت في أوراقه الشخصية، لإطلاق شركة، كان قد أنشأها فعلاً، وصمم لها الهيكليات والبطاقات، وبقية المستلزمات.
ما زاد في الفاجعة وتعقيدات المشهد الحزين، أن والدَيه كانا كلاهما في سفر، والده طريح الفراش يعاني من مرض شديد، ووالدته ترعى زوجها المريض، وقد جاءهما الخبر الصاعق هاتفياً، بأن ابنهما قد أُستشهد. كان هول الصدمة كافياً، أن يتحامل الوالد على نفسه، ويعود إلى بغداد من فوره. لست أدري إذا كان لباس الوالد جاء مصادفة أم حصل ذلك عمداً وعن تخطيط، فقد تجمهر أصدقاء الشاب الشهيد ومعارف الوالد عند أطراف مستشفى ابن النفيس، حين ظهر الوالد بسُترة بيضاء، موشحاً بكوفية بيضاء أيضاً.
كنت قريباً من الأب كنفسه حين راح يخطو صوب التابوت ليُكشف له عن ولده، وقد قرأتُ من خطواته الوئيدة ومضة أملٍ أخيرة، راحت تبرق في باطنه، في أن يكون من في التابوت ليس ولده، لكن هيهات، فها هو ذا الشاب العشريني محمد ممدَّد بين الألواح الخشبية، وكأنه مستغرق بنومٍ عميق، هو نوم الأبدية!
التفّ الغيارى والطيبون حول التابوت وحملوه مواساةً للوالد المفجوع، وهبّ الشباب بحماسة إلى حمل الجثمان من المستشفى ملفوفاً بالعلم العراقي، وقاموا بتشييعه ضمن ترتيب مهيب خططوا له من قبل، وكان أغلبهم من زملاء الدراسة والعمل، حيث كانت مسيرة راجلة، تَتقدمها مجموعة سيارات أضفت على توديع هذا الشاب مزيداً من المهابة والحماس، وهذه إجراءات على بساطتها تخفّف الألم عن والديّ المصاب، كما جرّب ذلك كلّ من مرّ بهذه المواقف المؤلمة؛ مواقف الثكل وفقد الولد.
بعد أن نهض الشباب بالحمل الثقيل، بدأ الوالد وكأنه قد تخفّف من المسؤوليات المباشرة، فراح يشارك في آخر صفوف التشييع، عندما اقترب منه أصحاب الفضائيات المشاركة، ليأخذوا منه حديثاً. كنت قريباً منه كظلّه حين رأيته يتحامل على أوجاعه وآلامه، وهو يقول: كفى دماءً، لا يحتاج العراق إلى شعار «بالروح بالدم نفديك يا ...» قدر حاجته إلى المحبة والسلام، والانسجام والوئام، والعراق لا يُبنى بالدم، بل بالعلم والعمل!
أسوق هذه الواقعة لكي تكون كلماتها مواساة ليس للشاب محمد وحده، بل لجميع أقرانه ممن خرّوا صرعى في هذا البلد، بمختلف الأوقات والمراحل، تفاعلاً وتجاوباً وتأييداً، لمنشور وصلني، يقترح تغيير هتاف: «بالروح بالدم نفديك يا عراق» إلى: «بالحب والعمل نبنيك يا عراق» أو: «بالعلم والعمل نبنيك يا عراق» كما اقترح أستاذنا الشبوط.
كفى لمناجم الدم التي اكتسحت حياتنا المعاصرة من لحظة قصر الرحاب عام 1958م، مروراً بما بعدها من انقلابات وتصفيات دموية، وحروب داخلية وخارجية، بلوغاً إلى لحظتنا الحاضرة التي لا تزال مضمّخة بالدماء!