كثير من المهتمين بالشؤون الديموغرافية، لايترددون في اظهار قلقهم من حجم الزيادات السكانية في العراق التي ما زالت مرتفعة بالمقارنة مع دول المنطقة والعالم، ولا يجارينا فيها سوى الشقيقة مصر، اذ يحتل البلدان اعلى نسبة نمو سكانية بين البلدان العربية، تصل إلى (2.5 بالمئة) سنويا .
مبعث القلق هذا يعود إلى الخشية من حدوث تضخم سكاني مقابل محدودية الموارد الاقتصادية ، ما يؤدي إلى ارتفاع معدلات الفقر وحرمان الاجيال القادمة من الظفر بحياة كريمة بعيدا عن الجوع .
ومثل هذا القلق قد يكون مشروعا، فيما لو كانت مثل هذه الهواجس غائبة عن طاولة المخططين، او انها لم تلفت نظر المعنيين، وبالتالي قد يحدث مثل هذا المحذور، لاسيما ان العراق لم تعد تفصله عن ولوج النافذة الديموغرافية سوى سنوات قلائل، وذلك عندما يصبح سكانه من الشباب يشكلون اكثر من 60 بالمئة من مجموع السكان، وهؤلاء هم النشطون اقتصاديا، ومن هنا ينبغي ان تكون الرؤية واضحة تماما من اجل تحويل الزيادات السكانية التي تقترب من مليون انسان سنويا، من عبء على التنمية، مع احتمالية حدوث مشاكل كبيرة ، إلى قوة انتاجية تمثل محركا ايجابيا وفاعلا اساسيا في عملية التنمية، وصولا لتحقيق معدلات نمو اقتصادي تساعد السكان على العيش بكرامة.
ولكن ، هنا ربما تثار مجموعة من التساؤلات المرتبطة بذلك القلق المشروع من الزيادات السكانية ، فيما لو تركت الامور من دون معالجة، ومن هذه التساؤلات : هل ان مثل هذه الرؤية موجودة فعلا على طاولة المخططين؟ وهل بالإمكان الذهاب باتجاه اصدار تشريعات وقوانين لتحديد النسل في العراق،لأنناوإزاء المليون السنوي نتوقع ان يتضاعف سكان العراق مرة واحدة كل 25 سنة، فإذا كان عددهم الان 38 مليون، فانههم سيصبحون 76 مليون نسمة عند العام 2043 .
وعند الاجابة على تساؤلات مقلقة كهذه، يمكن العودة إلى التوجهات التي تبنتها الحكومة في هذا المجال ، وفيما اذا كانت هذه التوجهات مستجيبة فعلا لقضية البعد السكاني وإدماجه في الخطط التنموية بعيدة المدى، فضلا عن ضرورة التماهي مع اهداف التنمية المستدامة السبعةعشرة التي تبناها المجتمع الدولي، ويأتي في مقدمة تلك الاهداف، العمل على انهاء الفقر بجميع اشكاله في كل مكان، بوصفه الهدف الاول للتوجهات العالمية، ثم يأتي بعده ومكملا له الهدف الثاني الداعي إلى القضاء على الجوع وتحقيق الامن الغذائي .
ويبدو ان الحكومة ، انتبهت فعلا لمثل هذه الابعاد المهمة ، اذ عملت على ادخال البعد السكاني ضمن خطة التنمية الخمسية 2022-2018، كما ان وزارة التخطيط اطلقت الوثيقة الوطنية للسياسات السكانية وفق اطار مؤسسي ومبادئ اساسية تقوم على اساس احترام حقوق الانسان والتأكيد، ان الاسرة هي الوحدة الاساسية للمجتمع، ومنح الزوجين حرية تحديد عدد الاطفال، ثم اعتبار الشباب هدفا وشريكا في التنمية. ومثل هذه المبادئ التي يبدو واضحا انها تمثل معايير حقيقية لتحقيق التوازن المطلوب بين البعد السكاني والنمو الاقتصادي، على اعتبار ان الانسان هو اساس ومحرك ومحور وهدف التنمية بجميع ابعادها؛ وفي ضوء المبادئ ذاتها، نعود للتساؤل الثاني، هل بالإمكان تحديد النسل وفق قوانين وتشريعات نافذة ؟.
من المؤكد ان عملية اصدار وتبني مثل هذه التشريعات ليس سهلا ونحن نتحدث عن مجتمع مثل المجتمع العراقي تحكمه الكثير من المواريث والقيم الاجتماعية التي ربما تتعارض مع هكذا توجهات ، ولكن بالمقابل، فان ثمة انخفاض في معدلات النمو السنوي للسكان، اذ كان الحديث يجري قبل سنوات عن 4بالمئة هي نسبة الزيادة السنوية، فيما نجدها الان انخفضت إلى اقل من 3بالمئة، وهذا يعطينا مؤشرا ان الاسرة العراقية لاسيما الاسر حديثة التكوين بدأت تدرك صعوبة توفير متطلبات العيش الكريم بعدد كبير من افراد الاسرة، فباتت تكتفي بطفلين او ثلاثة في اعلى تقدير، مع المباعدة بين الولادة، كما يؤشر ذلك ايضا إلى وجود تطور نوعي في مستوى الوعي الاسري في هذا المجال.
ومن هنا يمكن الحديث عن امكانية القيام بالمزيد من حملات التوعية والتثقيف من اجل تطبيق المعايير السليمة في بناء الاسرة، وفقا للتوجهات العامة للسياسات السكانية في العراق التي وضعت لها عشرة محاور رئيسة، تبدأ بتحسين الصحة الإنجابية وتمر بالتعليم لتنطلق إلى تمكين المرأة، وتتناول الشباب، وتهتم بالسكن، وتسعى لوضع حلول ومعالجات للهجرتين الداخلية والخارجية، ولم تنس تلك التوجهات، الاهتمام بالبيئة بهدف تحقيق تنمية مستدامة تحقق التفاعل بين السكان والبيئة وتغيير المناخ والتنمية الاقتصادية، كما انها تمنح الفئات الهشة في المجتمع مساحة تتناسب والاهتمام بهذه الشريحة، وتدعو تلك المحاور ايضا إلى ضرورة الاهتمام بالبحوث والدراسات وبناء قاعدة البيانات السكانية، فضلا عن تعزيز الشراكات الواسعة والفاعلة بين المؤسسات الحكومية والمنظمات المحلية والدولية.