في عام يعود الى النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، كنتُ في جولة صحفيَّة مع الزميلة منى سعيد للكتابة عن ناحية (الطارمية)، لصالح مجلة "ألف باء" التي كانت تقدم استطلاعاً أسبوعياً تحت عنوان (مدن عراقية)، وبعد أنْ أجاب مدير الناحية على أسئلتنا، أخبرنا بأنَّ فلان الفلاني من وجهاء الناحية وأثريائها، لديه معلومات واسعة عن عادات الناس وتقاليدهم وأعرافهم وحياتهم الاجتماعيَّة، والرجل حاصل على شهادة الماجستير... واتصل به فعلاً وأخبره بأنَّ وفداً إعلامياً من ألف باء سيزوره، ولم تكن به حاجة لإخباره أنْ يهيئ وجبة غداء للضيوف
الإعلاميين!
كان الرجل بحق رائعاً في كل شيء، عقليته المتفتحة وثقافته الموسوعيَّة وشجاعته في قول ما يريد قوله... ناهيك عن مائدته العامرة، ولكنَّ الأمر الوحيد الذي استوقفني ولم أتحرج من السؤال عنه لأغراض المعرفة وليس النشر، إنَّ بيت هذا الوجيه من الخارج يوحي بأنه (خرابه) فهو محاط بسياج من البلوك والطين والعاقول، وبابه من الحديد المتآكل، في حين كان من الداخل قصراً فخماً... أثاث هو الأحدث من نوعه، ثريات أرستقراطية، لوحات فنيَّة، بيانو، غرفة ضيوف، غرفة طعام، مكتبة ومسبح وأجهزة كهربائية شعرت بالبداوة إزاءها، وكان لا بدَّ أنْ أسأل عن ذلك التباين، ولم يتردد الرجل عن قول الحقيقة برغم مخاطرها التي يمكن أنْ ترفع رأسه الى حبل المشنقة (حمايات صدام وكبار مسؤوليه يتجولون كثيراً في الطارمية، والدار التي تعجبهم يشترونها برخص التراب، ولا يستطيع المالك حياءً أو خوفاً أنْ يردّ لهم طلباً... ولهذا أحاول إبعاد عيونهم
عن بيتي!!).
هذا السطو، وهذه السرقات المؤطرة بغطاء قانوني، هي واحدة من أهم أسباب ازدهار (النكتة السياسية) الشعبية في العراق، منذ ثمانينيات القرن الماضي، خاصة في ما يتعلق بالحياة المعيشية والاقتصادية التي أتعبت العراقيين، ويلاحظ ان هذا الأسلوب النضالي الذي برع به جنود مجهولون، بقدر ما كان سريع الانتشار، وله القدرة على السخرية المؤذية، بقدر ما كان قاسياً على النظام وأجهزته التنفيذية، ولهذا تصل عقوبة المتهم بترويج النكات الى المؤبد، وفي معظم الأحيان الى الإعدام!
من المؤسف حقاً، إنّ أحداً من الباحثين، أو من طلبة الدراسات العليا لم يتفرغ لرصد هذه الظاهرة التي أبدعتها القريحة الشعبية، ويبدو اننا لم ندرك بأنَّ عملية التوثيق لو تمت فإنها ستقدم المشهد الأكثر مصداقيَّة وتعبيراً عن تلك المرحلة... على أية حال، ومن أجل تقريب الصورة نستعينُ بإحدى تلك النكات الموشومة بالكوميديا السوداء، ومفادها أنَّ صحفياً سأل (خير الله طلفاح) عن رأيه في ما يشاع بين الناس، إنه قد استولى على أراضي الدولة وبيوت الناس بالقوة مقابل أثمان بخسة، فأجابه: هذا كذب وافتراء.. فأنا لا أمتلك غير قطعتين سكنيتين في بغداد، إحداهما تدعى الكرخ والأخرى تدعى الرصافة!! بالطبع لم يعد الأمر بعد 2003 يحتاج الى نكات ساخرة وكتمان وسرية، بعد أنْ أصبح الفساد حديثاً يومياً للمواطنين والإعلام والبرلمان والحكومة والمعارضة والمقهى
والشارع...