جنوح الأحداث.. خطر يهدد المجتمع

ريبورتاج 2018/11/25
...

بغداد/ فجر محمد
كان منظر السيارات وهي تزدحم امام بيت (و،ح)  مثيراً لاستغراب ودهشة كل من كان يسكن في الجوار، لاسيما مع  ترجل الكثير من الاشخاص كبار وصغار السن الذين كانوا يستشيطون غيظاً وغضباً ويتهامسون فيما بينهم تارة، ثم تعلو اصواتهم تارة اخرى ويقول احد هؤلاء الرجال:"ان (و،ح) رغم صغر سنه الذي لم يتجاوز السبعة عشر عاماً  الا انه متهم بالكثير من القضايا منها السرقة والاعتداء وغيرها من الجرائم، اذ وصلت الى ما يقارب العشرين جريمة، ولم يكتف المشتكون برفع دعاوى عليه، بل قرروا ان يواجهوا عائلته ومنهم من يفكر الان بطلب تعويض عن الجرائم التي ارتكبها".

يرى القاضي ناصر عمران الموسوي ان مصطلح مجرم لا يطلق الا على من بلغ الثامنة عشرة من العمر، اما دون ذلك فهو جانح، ولذلك  جرى تشريع قانون رعاية الاحداث رقم 76 لسنة 1983 المعدل وهو يعد من افضل القوانين استلهاماً لرؤى المعالجة على اسس موضوعية فالمادة (1) منه تنص على ان الهدف من قانون رعاية الاحداث هو الحد من ظاهرة جنوحهم من خلال وقايتهم من الجنوح وتكييفهم اجتماعياً وفق القيم والقواعد الاخلاقية لمجتمع ما.
 
دلال مفرط
لم يكن (و،ح) يشكو من الفقر او العوز، بل كان مرفهاً و كانت طلباته بالنسبة لوالديه اوامر، اذ لا يمكن ان ترفض لانه الصبي الوحيد بين خمس بنات لذا كان تركيز الاسرة عليه بالدرجة الاساس وهو المفضل بين اخواته، هذا ما اكده جارهم الخمسيني الذي فضل عدم الافصاح عن اسمه وتابع بالقول: "ان (و،ح) واسرته جيراننا منذ زمن طويل ولطالما عرفناهم بحسن الخلق والتواضع والتعاون مع الاخرين، ولكن الوالدين كانا يدللان ولدهما كثيراً، اذ لم يرفضا له اي امر او طلب لانهما كانا يسعيان دائماً لارضائه، فلم يكن يرتدي الا ارقى الملابس ومن ماركات عالمية معروفة ويقتني احدث الاجهزة الالكترونية والهواتف النقالة، والجميع لاحظ سلوك (و،ح) المستهتر اذ لم يكن يصغي الى والده ولا لاي شخص كبير في السن، كما انه اختار مرافقة اصدقاء السوء دون ان يفكر بعواقب ذلك على مستقبله".
الباحثة بالشؤون النفسية والاجتماعية والاكاديمية الدكتورة ناز بدرخان السندي توضح ان "الدلال المفرط وعدم وضع القوانين والثوابت للطفل منذ صغره قد يؤديان الى فقدان الابوين لاحقاً زمام الامور، فيخرج الصبي عن السيطرة، لذلك لابد ان يكون هناك توجيه وانضباط ومحددات توضع له منذ الصغر كي لا يتجاوزها لاحقاً".
 
تثقيف وتوجيه
الموسوي يشير الى ان الازدياد الحاصل بارتكاب الجرائم من قبل الاحداث ظاهرة خطيرة تستدعي وقوف المجتمع بوجهها مع ضرورة التوعية والارشاد والتثقيف لأولياء الامور واولادهم، فضلا عن تبني سياسات اقتصادية قادرة على استهداف ظاهرة الفقر والتي تشكل مناخاً خصباً لظاهرة جنوح الاحداث، كما لا يخفى على احد ان دخول التقنيات الالكترونية التي صارت بمتناول الجميع وتم استغلالها كثيراً في ارتكاب الجرائم ومنها التهديد والايذاء الجسدي والاستغلال الجنسي والسرقات وخطف الاشخاص وبنسبة اكبر من الجرائم الاخرى كالقتل والتخريب وخيانة الامانة والاحتيال وغيرها، ولعل السبب الاهم هو القصور في تفعيل معالجة الاكتشاف المبكر للجنوح وبالتالي الوقوع في هذه الظاهرة الخطيرة، اضافة الى ان هناك تلكؤاً في المعالجة التأهيلية  للاحداث الجانحين وهي مسؤولية اولياء الامور والادارة التنفيذية الحكومية، فضلا عن مدارس التأهيل ودور الاحداث.
 
غياب الرقابة
بعد ان انتقل الى العيش مع بيت خاله نتيجة انفصال والديه عن بعضهما، اختار (ل،ي) ان يعيش الحياة على هواه وان لا ينصت الى من هم اكبر منه سناً، بل كأنه اوجد قانوناً خاصاً به واختار اصدقاء معروفين بسوء سلوكهم وتصرفاتهم لدى جميع سكان منطقته ما ادى الى ابتعاده عن عائلته بالكامل، ومرافقة اصحابه في عمليات الاعتداء والسطو المسلح على المحال والمنازل، بهذه العبارات تحدثت شقيقته الصغرى، اذ قالت والدموع تترقرق في عينيها:"لم تكن حياتنا العائلية مستقرة بسبب العلاقة المتدهورة التي جمعت والدينا، اذ لم يكد الشجار او المشادات الكلامية تغيب عن جلساتنا العائلية لتعكر صفو حياتنا فلم نعرف الاستقرار والراحة يوماً، بل كانت المشاكل والازمات تعصف ببيتنا الصغير الذي جمعنا نحن الاخوة الاربعة، وبعد أن كبر اخي (ل،ي) وانفصل والدي انتقلنا للعيش بعيداً عن ابي حتى تحول شقيقي الى شخص آخر لا يصغي لاحد ولا يستمع لنصائح  كبار السن، لحين وقوعه في هذه المشاكل الكبيرة بسبب رفاق السوء".
الباحثة بالشؤون الاجتماعية والاكاديمية الدكتورة ناز بدرخان السندي تبين ان رعاية الابناء هي مسؤولية الوالدين، اذ يجب ان يحافظا على الجو الودود في المنزل كي لا يؤثران في اولادهم سلباً، وان كان هناك خلاف بينهما، فيجب ان لا يظهرانه  امام الابناء، اذ قد يتحولون الى عدائيين او كتومين ويفضلون العزلة وعدم الاختلاط ويصنعون عالماً خاصاً بهم بعيداً عن عائلتهم، لاسيما الوالدان واحيانا ما يسلكون طريق العناد بهدف اثبات الذات.
 
دراسات وبحوث
اشارت بعض الدراسات التي اجريت الى ان اكتساب خبرات السلوك المنحرف غالباً ما يتولد بسبب الأصدقاء والأقارب، او عن طريق وسائل الاتصال المختلفة ومواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما يعني ان قيم الحق والعدل باتت غير حاضرة بالقوة ذاتها في نظام التربية العائلية والاجتماعية، وتجدر الاشارة الى انه يُسجّل كل عام في جميع أنحاء العالم، حدوث نحو مئتي جريمة قتل بين الشباب من الفئة العمرية 10 - 29 سنة، ما يمثل  43بالمئة من العدد الإجمالي لجرائم القتل التي تحدث سنوياً على الصعيد العالمي. 
هناك، مقابل كل شاب يُقتل، 20 إلى 40 شاباً يتعرّضون لإصابات تقتضي دخولهم المستشفى لتلقي العلاج، وفيما يخص رعاية الاحداث في العراق فقد انتقلت مسؤوليتهم من وزارة العمل والشؤون الاجتماعية الى العدل، كما ان منظمة اليونسيف تتعاون مع دائرة اصلاح الاحداث بتوفير الدعم اللازم في اطار البرامج المشتركة مع وزارة العمل والشؤون الاجتماعية منذ عام 2011، كما يتسع نطاق التعاون ليشمل وزارتي الداخلية والعدل في مواقع مختارة، حيث توجد فيها اصلاحيات خاصة بالاحداث ويتم فيها احتجاز المحكومين سواء في مراكز شرطة الاحداث او في مرافق تابعة لوزارة العدل على سبيل الامانة.
 
مسؤولية اجتماعية
السندي تلفت الى مسألة مهمة وهي عندما يرتكب الحدث جنحة يجب أن يعمل المجتمع على احتوائه فهي تقول:"عملت قبل اعوام في مدرسة تأهيل الصبيان ومؤسسة الاحداث كباحثة اجتماعية ونفسية ووجدت الكثير من القضايا التي كانت صغيرة ثم تحولت الى كبيرة بسبب المعاملة الخاطئة من قبل الاهل والمجتمع للحدث، اذ قد يرتكب الجانح مخالفة صغيرة قد تؤدي به الى السجن الذي يضم شخصيات مختلفة ارتكبت جرائم متعددة، فيتعلم منهم الاساليب الاجرامية التي من شأنها  تدمير حياته ومستقبله 
لاحقاً".
ويؤكد الباحث بالشؤون الدينية الشيخ حسام البغدادي  ان التربية ليست مسؤولية الوالدين فقط بل المجتمع باجمعه، بدءاً بالمدرسة والمؤسسات الدينية التي يجب ان تزرع في الشخص الشعور بالمسؤولية وروح المواطنة  وان تحتويه حتى وان اخطأ وتمنحه الثقة بالنفس، ولأن المشاكل المجتمعية اصبحت متعددة في مجتمعنا، لذا فلن نستغرب اذا ما وجدنا ان هناك نسبة كبيرة من الاحداث الجانحين والشباب الذين يتعاطون المخدرات ويرتكبون الجرائم المختلفة، ما يلقي على كاهلنا مسؤولية كبيرة وهي اعادة بناء المجتمع.