حفظ اللغة أو حماية الكنوز القديمة

آراء 2018/11/26
...

ياسين طه حافظ

في الثمانينيات صدر ملحق قاموس اوكسفورد Supplement to the Oxford English Dictionary وكان هذا الملحق يحتوي على 18750 كلمة! ومن يدري لعلّ الطبّاعين وهم منشغلون، تكون كلمات أخرى قد وجدت طريقها اليهم. معنى هذا أن حدود اللغة اتسعت وهي الآن تتسع حتى لتشتبك بالوجود اليومي للناس ولن تظلّ محدودة بما اعتدنا واعتادوا عليه وما ورثوا.عدد الكلمات الفاعلة active كاف لأنّ يسجَّل في كتاب ونقول هذه مفردات اللغة الانجليزية، أو هذه حدود مقبولة للمعجم العربي اليوم.

لكن أليس في قاموس اوكسفورد وملحقه مفردات وتعابير نفعت في الماضي واختزنت دلالات وامكانات تعبير؟، وهذه قد تفيدنا، إن ليس كلها فبعضها قد يكون نافعاً، بل مهماً للمستقبل؟، ثم، أليس هذا الكم هو ما احتاج له الناس يوماً وتراكم من جيل إلى جيل؟، أما كان تعبيراً عن مضمون وتفاصيل حياتهم أفكاراً، علوماً، عواطف؟، وحتى لمصنفي المعاجم اليوم Lexicographers، أليس هو ثروتهم التي ينظمونها اليوم ويجمعون شتاتها؟.
ما يستوقفنا الآن هو: هل نهمل هذا الكم من المفردات والتعابير بحجة أنّها تنتسب لأزمنة خلتْ ولعوالم أخرى؟ وهل تأكيد أو تحديد احتياجنا لمعجم أقل عدداً من الكلمات، يعني لا جدوى الفائض مما
 ورثنا؟.
أولا، هي ليست مفردات وتعابير حسب، هي ثروة ثقافية، والمفردات هذه والتعابير تختزن في باطنها العديد من الاشارات والانتباهات ولها صلات بكنوز أخرى غائرة في
 القدم.
ثمّ، لم يحصل أن يأخذ فرد أو جماعة من ميراثه ما يحتاج له ويتلف أو يهمل الباقي. الحاجات تتجدّد وفيما يهمل ما ينفع ويعين على فهم ويكشف غامضاً أو يستدلّ به على ما خفي علينا.
أحد المساعي لإراحة ناس الحاضر وسدّ احتياجهم اليومي، أن يستعان بقاموس لزماننا واحتياجاته اليوميّة كمثل دليل الاكاديميّة الفرنسيّة Dictionaries de La Academia Françoise ومصنفات شبيهة بذلك. كما لنا في العربية الوسيط والمنجد. هي مساع توفر حلولاً لكن يجب ألّا تحول دون الحفاظ على الكنز الموروث عبر تاريخ الأمة أو تاريخ اللغة.
ثمّة محاولات أخرى يمكن أن تنقلنا لما يحتاج له وسط ثقافي معين أو علمي أو تقني. هذه تنقلنا من التعميم إلى التخصص. مثل "دليل لنة دانتي" و "دليل غرائب الفرنسيّة" والكلمات والتعابير الصعبة Ircublesome في اللغة الانجليزية" وتآليف من هذا النمط تعمل في الاتجاه نفسه، اتجاه الحفاظ على اللغة وما لم يعد مفهوماً أو معروفاً. ولنا كتب في "غريب اللغة ووحشيها. كما أن وجود معاجم متخصصة تلم بما حول الزراعة أو الدبلوماسية أو الطب أو الميديا، كلّها محاولات تقع ضمن هذا النهج الذي يوفّر ما تحتاجه له العلوم والفنون وحقول الحياة المعاصرة
 الأخرى.
وبالنسبة إلى نتاجاتنا الأدبيّة، لنا مثال مبكر ومهم هو مقدمة كوليردج لبالادات ورودزورث Preface to lyrical Ballads حيث اهتمّ كوليردج بما أسماه اللغة المصفاة Purified والتي رآها لغة ناس وزمن وطبقة وردزورث. في نقد كوليردج انتباه إلى أن فلاحي ذلك الزمان كانوا يستعملون عبارات تعود لما قبل ثلاثة أو أربعة
 قرون.
 هؤلاء ورثة الأمة وورثة لغتها. وتلك اللغة، كما يقول كوليردج، كنوز مهيّأة للجامعات
 والمدارس.
ما يهمّنا أن أولئك الفلاحين قد هضموا لغة قديمة كانت وتغذوا بها. فهي مؤونتهم وهي حمّالة تفاصيل أسلافهم وهي الأكثر حميميّة ونفاذاً ولها مذاقها الذي
 يريحهم.
وهنا حق لنا أن نسأل عمّا وراء قاموس اوكسفورد وملحقه من مصادر وما وراء معاجمنا؟، وإذا كان ملحق يأتي تكملة بـ18750 كلمة، فكم فاتنا وكم تخسر الأمم من ذخائر تاريخها؟ وهذا العمل، وليكن مثالنا ملحق قاموس اوكسفورد، ليس عملاً استثنائيا، هو محاولة من محاولات تجمع بين الحفاظ على مفردات اللغة وتعابيرها عبر تطور أو تقدم هذه اللغة، وهي أيضاً محاولة تقابل محاولات المبدعين الكبار والشعراء وسعيهم لأن تكون لكلّ منهم لغته المصفاة وتعابيره، مثلما يكون له اسلوبه. ووجود مفردة أفضل من مفردة يعني أيضاً ثمّة من التعابير، ومن المفردات ما هو "أسوأ" من سواه.. لكن "الأسوأ" هذا، أو الأقل ملاءمة واستجابة، لا يعني افتقاده القيمة ولا يعني "لغويّا" أنّه دون سواه أهمية وأن كان أقلّ استعمالاً. ذلك ليس منطق المعنيين باللغة، بالنسبة لهؤلاء هو كيف نبقى اللغة في مملكتها أمام ضغوطات المعاهد في زماننا وكيف نمتلك لغة "طبيعيّة" غير "مجبرة على التخلي" ولا تدفع من تكوينها ثمن التغيير. 
 
وسؤالي الآن:
كيف الحفاظ على أغنى مدخراتنا وأثمنها وأقدمها أيضاً؟.