جسر العشاق

الصفحة الاخيرة 2018/11/26
...

محمد غازي الاخرس
 نعم، يحتاج الأمر تأملاً ثقافياً وسيكولوجياً وحتى أنثربولوجياً. أعني الكتابة على الجدران، هذه الفعالية التي لطالما مارسناها في الطفولة والصبا. يزعم الانثربولوجيون مثلاً أن أصل الفن جاء من مخاوف الانسان التي رسمها على جدار كهفه، ومن تلك الرسومات خرجت التعاويذ والرقى، ومن ثم
، استنهض اللاوعي بوصفه متراساً لصدّ أشباح العالم. زعموا ذلك بعد تتبعهم لتلك الرسومات التي تركت من أعمق طبقات التاريخ، حيث كان الإنسان مطارداً من قبل وحوش البراري، ولم يكن أمامه سوى تخيل ملائكة حارسة تدفع 
عنه.
 ومن هنا بدأ الصراع الأزلي الذي ولدت منه الفنون والأساطير. مع هذا، ليست المخاوف هي الوحيدة المكتوبة على الجدار أو المرسومة على صفحته، فهناك الأحلام والأمنيات، العشق والكراهية. كل شيء له بصمة على الجدار. في القاهرة مثلا كنت قد ذهلت يوماً عام ٢٠١٤ من مشهد حائط كأنه لوحة سوريالية مر مرور السحاب أمام ناظري. كان مليئاً بشعارات دونها معارضون ومعها رسومات لا أجمل منها ولا أعمق. لكم دُهشت حينذاك إذ علمت من المرشد السياحي أنّ السلطة تركت ذلك الجدار المعارض عامدة لأمر في نفسها. لعلها تركته للتنفيس عن الغضب الشعبي المحتدم. 
الحال إنني تذكرت هذه الفكرة لأنني مررت مرتين أو ثلاثاً مؤخراً على جسر باب المعظم من صوب الكرخ إلى الرصافة، وكان ثمة مشهد آسر استوقفني. كان هناك جدار يمتد من وسط الجسر إلى بدايته يزخر بعبارات العاشقين، كتابات فوضوية لكنها ساحرة بشعبيتها وعكسها مزاج جيل يعشق الحياة ويمارسها، بل يبرع في تسريب شغفه بها للعيان. واحدة من طرائق الإعلان هي الكتابة على الجدران. في المرة الأولى دُهشت وتحدثت إلى السائق متسائلا: من يكتب هذه
 العبارات؟
 فقال إنهم طلبة المدارس. ثم قال إن أمانة بغداد غالبا ما تعيد صبغ الجدار لإخفاء الكتابات. تأسفت وأعربت عن استغرابي قائلا أن الأمر جد لطيف وهو يمكن أن يكون ظاهرة بغدادية تمتد على كل الجسور. تخيلوا تخصيص عشرين متراً مثلاً من جانبي كل جسر لكتابة عبارات مثل: أموت عليج مروه، جنت أحب b ، في بداية المساء أنا أحبك جدا
، أحبج رفل موت، رزان أحبج وما زالت حبيبتي حبيبتي، والخ. 
دعكم من كونها مجرد عبارات عابثة يكتبها مراهقون وانتبهوا إلى الخطوط كيف تعكس روحا شعبية دفاقة ولا تنسوا الأخطاء الإملائية والخلط بين الرسم والحرف، فهناك قلوب جريحة تسيل منها الدماء وسهام وأحيانا رموز غريبة وشخابيط لا أجمل منها. أي نعم، يحتاج الأمر تأملاً، فنحن أمام لاوعي شعبي يخرج أجمل ما فيه بشكل هو الأكثر فوضوية وسحراً.. 
ويا عجبي!