ما من شعب من الشعوب إلا وتواردت عليه المحنّ والكوارث، والشعب الحيّ هو من يستطيع أن يصنع نهضته، من بين تلك الكوارث والمحنّ. فاليابان ضُربت بالنووي، وركعت ألمانيا بهزيمة مذلّة، لم تسلم منها برلين التي تحولّت إلى أبعاض، توارثها المنتصرون نهاية الحرب العالمية الثانية، وأوروبا الغربية انقسمت إلى شطرين ابتلعت المنظومة الشيوعية النصف الأول، بينما راح النصف الثاني يعيش أسوأ تبعات الحرب من الدمار والفقر، فصار تحت الوصاية الأميركية عبر مشروع مارشال، رمزاً لهيمنةٍ أميركيةٍ أمنية وعسكرية واقتصادية وثقافية، لا تزال تعاني أوروبا منها حتى اليوم.
روسيا عاشت تحت وابل حربين مدمرتين في أقلّ من ثلاثة عقود، وسلطة دكتاتورية غاشمة، تتحدّث بعض الأرقام انها سحقت أكثر من عشرة ملايين إنسان، قبل أن تتنفس شيئاً من توازن الحرية بعد موت ستالين، لتغطس مجدداً في ديكتاتورية جديدة، انتهت مع غورباتشوف وانفتاحيته التي أودت بسقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، والتأسيس لعصر روسيّ جديد مع يلتسين، ثم الرئيس بوتين.
المنطقة العربية شهدت استيطاناً مفجعاً لاستبدادات أنظمة سايكس بيكو، معها في المصير نفسه تركيا وإيران، فكانت محنة هزيمة 1967م وتقلبات هذه الأنظمة ورموزها بين المعسكرين، وصعود قيادات ورموز وأفول أخرى أمثال عبد الناصر وحافظ الأسد والملك حسين والملك فيصل وصدام والنميري والقذافي، وأخيرا بن علي ومبارك وعلي عبد الله صالح وبوتفليقة.
في هذه الازمات وغيرها بالعشرات بل المئات، لا مخرج إلا بالحكمة والعقل والتدبير، وإلا تتضاعف الخسائر ويزداد حجم الدمار. فالقيادات الحكيمة وأصحاب العقول هُم المدار، في النجاة من الكوارث والأزمات، وفي موروثنا: «يتفاضل الناس بالعلوم والعقول، لا بالأموال والأصول» لأن العقل هو الأداة التي تجلب الثروات وتنميها، وإلا كم بدّدنا من الثروات والأموال، بغياب التدبير العقلي والإدارة العقلانية للبلد؟
إننا في أمسّ ما نكون حاجة إلى العقلانية والحكمة والتدبير، لأنّ: «العقل أقوى أساس» وهو ذخيرة النهضة: «العقول ذخائر» والعقل هو الأساس في كلّ منفعة، وربّما استطاعت الثقافة المعادية للعقل، أن تقلل من قيمته وفعاليته وحضوره في حياتنا، عندما راحت تَسّمُ كلّ ما هو عقلاني بـ«النفعية» أو «البرجماتية» لتغرس فينا كراهية العقل، وتعزز نزوعاً مثالياً متعالياً على الواقع، مع أن موروثنا صريح في ربط العقل بالمنفعة: «العقل يأمرك بالأنفع»، كذلك ما من أمر إلا ويحتاج الإنسان فيه إلى العقل: «بالعقل صلاح كلّ أمر» و «العقل ينبوع الخير» و «بالعقل تنال الخيرات» بل ثمّ في موروثنا ما يساوي بين العقل والمنفعة: «العقل منفعة».
لقد مرّ بلدنا بكثير من المحن والتقلبات والفجائج، وقد لا نقول شططاً؛ أن طريق العقل هو الطريق الأوحد القادر ليس على إيقاف التدهور وحسب، بل تحويل الأزمات والكوارث، إلى منافع ومكاسب، ومن شروط ذلك أن نستفيد من تجاربنا، خاصة وأن في صميم موروثنا الإيماني والإنساني: «العقل حفظ التجارب» و «حفظ التجارب رأس العقل».
بهذا المنطق نستطيع تحويل جميع ما نمرّ به من أزمات حتى القاسي المفجع منها، إلى رصيد للسيطرة على الحاضر، وان نقلب كوارثنا إلى مادة للعمل، لأن العراق لا يزال يعبّر عن «نبوءات أمل» بعكس ما يريده الشانئون!.