الملقن

ثقافة 2018/11/26
...

منير عتيبة
 
 
محظوظ من يضع شيئًا على رأسه؛ عمامة أو طاقية أو كابًا، يحميه من تلك الشمس الجهنيمة التي تبدو مستمتعة بتسخين أدمغتنا، ولسع أقفيتنا التي بدت معظمها كفم فرن الخبيز. الغبار يتصاعد جرَّاء إسراع مئات الأقدام في الطريق الترابي الضيق الموصل إلى المقابر، فتضيق أنفسنا أكثر، وتسيطر رائحة عرق ملتصق بالغبار فتزكم الأنوف، لكن الحديث الهامس بين المعزِّين لا يتوقف؛ البعض يتحدث عن تجارته، أو خلافه مع جاره في تحديد نوبة ري الأرض، أو شجاره مع زوجته، لكن أغلب الحديث عن المرحوم الذي لم يكتف بما كان يفعله فيهم في الدنيا من شرور، فمات في يوم من أيام الجحيم ليعذبهم بجنازته!
وصل النعش إلى المقابر، فوضعه الشباب الأربعة وهم يلهثون، أحدهم استند بذراعه إلى شاهد أقرب مقبرة قبل أن يسقط مغشيًّا عليه، والآخرون جلسوا على الأرض يغسل وجوههم العرق والحنق الشديد لأن أحدًا من العشرات الذين حضروا الجنازة لم يفكر في حمل الخشبة عنهم كما هو معتاد في مثل هذه الحالة، وتركوهم يسيرون بها لأكثر من نصف ساعة، وهي أثقل خشبة حملها أحدهم في حياته؛ إذ كان المرحوم سمينًا جدًّا كبقرة (عُشَرَاء) في عجلين، يهمس أحدهم لصاحبه بصوت يتقطع لهاثًا: لكن ربما كانت ذنوبه أثقل منه ومن الخشبة معًا!
يتم فتح المقبرة الفخمة وتجهيزها، ويبدَؤُون بإدخال الجثة، لكن صرخة قادمة بقوة من خلف الواقفين تجعلهم يتوقفون عن إدخال باقي الجثة، فأصبحت تائهة نصفها في الداخل، ونصفها في الخارج، فيما بعد قالوا: إن المرحوم تمنى لو يظل الوضع هكذا إلى الأبد حتى تتسنى له فرصة الهرب وقت اشتداد الحساب!
ظهر الشيخ صبحي بكاكولته التي لم تتغير منذ سنوات، وقدميه القصيرتين، يقفز بهما بين المقابر والمعزِّين، طلب أن يُخرجوا رأس الميت من القبر، أخذ يلقنه إجابات الأسئلة التي سيوجهها له الملكان، ثم دس بين طيات الكفن ورقة صغيرة، وقام زاعقًا بصوته الجهوري الذي لا يتناسب مع قامته الضئيلة بالدعاء للميت أن يثبته الله عند السؤال ويجيب الإجابات الصحيحة، ثم مال على المعلم جابر ابن المرحوم الحاج عبد الستار صاحب وابور الطحين الأكبر في كل القرى بمنطقتنا، وقال له: اطمئن سيجيب ويمر بسلام!. في الصباح كانت الحصر مفروشة في الأرض الخلاء أمام وابور الطحين، يجلس جابر وإخوته وعدد ممن يعملون لديهم يتلقون العزاء في الراحل الكبير، أقبل الشيخ صبحي بمشيته القافزة وعلى وجهه ابتسامة عريضة لا تتناسب مع علامات الحزن المرسومة على وجوه الجالسين، صاح الشيخ صبحي: أبشر يا معلم جابر! الحاج عبد الستار الآن في روضة من رياض الجنة، لقد أجاب على كل الأسئلة كما لقنتُها له بالضبط وكما وضعتها له في كفنه!
عقدت الدهشة لسان جابر فلم يستطع أن يتكلم، كيف أجاب أبوه الذي لم يره يقرأ يومًا آية من القرآن أو يدخل المسجد إلا في حالات الوفاة؟! سأل أحد الحاضرين ساخرًا: وكيف عرفت يا شيخ صبحي؟! هل لك أقارب في الكنترول؟!
ضحك آخر قائلًا: أم أنك أمضيت ليلتك مع الحاج عبد الستار في القبر يا شيخ صبحي؟!
ثم كتم ضحكته عندما نظر إليه جابر بغضب.
جلس الشيخ صبحي، مد يده إلى أقرب كوب شاي، وترشف رشفة كبيرة مُصدرًا صوتًا مستمتعًا، ثم قال بجدية شديدة: الحاج عبد الستار رحمه الله بنفسه هو من أخبرني.
ولم ينتظر السؤال المتوقع، فأكمل كلامه: جاءني في المنام بكفنه الأبيض، وقبلني على خدي وعلى رأسي، وأعطاني الورقة التي دسستها له في كفنه، وقال لي إنه الآن يتنعم!
أدار الشيخ صبحي عينيه في وجوه الجالسين، ولم تهتز له شعرة لرؤيته نظرات السخرية، والملامح التي تكاد تنفجر بالضحك لولا وجود جابر، بل أخرج ورقة من جيبه وقال: ها هي الورقة التي أعطانيها الحاج عبد الستار رحمه الله!
انفجر أحدهم زاعقًا: أعطاك الورقة في الحلم، وتخرجها لنا من جيبك الآن يا شيخ صبحي؟!
هز الشيخ صبحي رأسه بوقار قائلًا: رجل صاحب كرامات رحمه الله!
ثم أخذ باقي ما في كوب الشاي في رشفة واحدة، مُصدِرًا نفس الصوت السابق، وقال: أعلم أنكم لن تصدقوا، لكن الدليل موجود والحمد لله.
تداخلت الأصوات وكان أعلاها صوت جابر يسأل عن الدليل. فقال الشيخ صبحي: أخبرني صاحب الكرامات رحمه الله أنه سيزور ابنه المعلم جابر الليلة في المنام ويحدد له المكافأة التي سيمنحها لي، وأعطاني هذه الورقة لأسلمها للمعلم جابر (وناول ورقةً لجابر) بشرط ألا يفتحها المعلم جابر إلا بعد أن يستيقظ من الحلم ليتأكد أن ما أخبره به أبوه صاحب الكرامات هو نفسه المدون بالورقة، كما أخبرني أنه سيزور بعض الجالسين في الحلم ليصف لهم ما هو فيه من نعيم، ويؤكد على بركة تلقيني له! ومن سيزورهم هم السعداء الذين ستكون قبورهم مثل قبره روضة من رياض الجنة!
تعالت بعض الأصوات: الله أكبر! الله أكبر!
في اليوم التالي كان المعلم جابر يسلم الشيخ 
صبحي عقد قيراط من الأرض أوصى له به الحاج 
عبد الستار صاحب الكرامات في الحلم، كما حكى 
كثيرون من الأهالي عن زيارة الراحل الكريم لهم في المنام، ولم يعد أحد يُدفن في قريتنا إلا بعد أن يلقنه 
الشيخ صبحى الإجابات، ويضع ملخصًا لها في 
طيات الكفن للتذكرة، ثم يزور الميتُ أكبرَ أبنائه ليوصي للشيخ صبحي بما هو مكتوب في ورقة يقدمها له الشيخ مسبقًا، فأصبح كل من يموت في قريتنا صاحب كرامات!