جبران خليل جبران وليلة الشّباك المكسور

ثقافة 2018/11/26
...

علي حسن الفوّاز
 
 
الدهشةُ هي لحظة غريبة، لجلجتني كثيرا، وأنا أقف عند غواية كتابٍ صغير، لم أتخيّل يوما أن يكون هو العتبة التي ستأخذني الى مجهول المعرفة، فقد كنت مسكونا بأوهام كبيرة عن علاقة الافكار بحجم الكتب، ربما هو وهمٌ بأن هذه الكتب تشبه الخزائن، فكلّما يزداد حجمها تتسع معها الحكايات والأفكار والمتع.. في ليلةٍ مزدحمةٍ بأشياء كثيرة، جعلت غرفتي الصغيرة وكأنّها جحيمٌ، كلُّ شيء فيها يضجّ بالقلق، ويبعث فيَّ إحساسا بالكآبة، فشهر حزيران الساخن هو شهر امتحانات البكالوريا، والسخونة في تلك الليلة بدتْ لي مرعبة، فأنا بطبيعتي أكره الرياضيات، وهاجسي بأنّ الامتحان بها يجعل النفس والمكان أكثر هلعا واضطرابا، ولا حلول جاهزة لديَّ سوى الهروب الى شباك الغرفة المعتم، لأطلَّ من فتحة زجاجته المكسورة على المرأة التي تقابلني بشباكها الضاجّ بأنوثتها الصاخبة.

الأجنحة المتكسّرة
ثمّة صوت مألوف خارج الغرفة يبحث عنّي، أيقظني من خلطة الهواجس التي تحاصرني، العم كاظم يحمل بيده كتابا صغيرا، بدا لي وكأنّه يلمع رغم خفته، عنوانه غير مألوف، وحتى اسم كاتبه له إيقاع لم أتعوّده، حتى باغته بالسؤال: ماذا تعني الأجحنة المتكسّرة؟ ومن هو جبران خليل جبران؟.
لم يشأ العم سوى أنْ يضع الكتاب أمامي، وهو يسخر منّي بضحكته المجلجلة، لكن غدا امتحانك بدرس الرياضيات التي تعشقها كثيرا!!! ولا أظن أنّ جبران سيكون عونا لك وأنت ستضطر للغشّ في الامتحان..
تلقفت الكتاب منه دون الانتباه الى سخريته، وبطريقة من يبحث عن ترياقٍ للخلاص من كآبة الغرفة والرياضيات، ومن اضطراب الشبق الذي يحبسني عند حافّة شباك غرفتي المكسور، ومن رائحة المرأة التي تتسرّب من الشباك المقابل.
الكتاب صغير الحجم، لكنّه مدهش وساحر بعنوانه وبلغته الرومانسيّة، وكأنّ أشباحا تخرج منه لتخرجني من الغرفة، ولأجد نفسي في لحظة استغراقٍ لم أصحُ منها، إلّا والليل قد جرَّ امامي الوقت الذي كنتُ متوهّما بأني سأخصصه لمراجعة طلاسم درس الرياضيات.
الصحو بعد قراءة هذا السفر الساحر إيقظ فيَّ ذاكرة الحكايات القديمة، والاحلام التي كنت ألاحقها، ولعلّ لهفتي في القراءة جعلتني أنسى فكرة الامتحان، وأن أستخفَّ بقراءة الرياضيات، فهي لا تساعدني على فكّ اشتباك الأنفس التي عاشت لحظات الحب والضعف والخيانة والموت، حدّ أنّ بعض كلمات جبران مازلت أتذكّرها وهي تتقافز أمامي، بدهشتها، ببريقها الناعم، بـ (أجنحتها المكسورة) والموغلة في النفس مثل هواء بارد، هو يتحدث عن تلك النفس العاشقة، وعن الضعف الانساني، وعن اللهفة، وكأنّه يقصدني، او يفتح حوارا معي، او ربما يدعوني الى أنْ أشاطره هذا الحب المكسور..
 
الكتابة المُفارِقة
قول جبران: (ان النفس الحزينة المتألمة تجد راحة بانضمامها إلى نفس أخرى تماثلها بالشعور وتشاركها بالإحساس مثلما يستأنس الغريب بالغريب في أرض بعيدة عن وطنهما ... فالقلوب التي تدنيها أوجاع الكآبة بعضها من بعض لاتفرقها بهجة الأفراح وبهرجتها)، اختصر لي – لحظتها - أسئلتي المراهقة عن الحبّ، وعن التضحية، مثلما أثارت لي مرحلة مقبلة أسئلة عن  فلسفة الاغتراب، وما يمكن أن يُحدثه وجع الخذلان وهيمنة الألم والاحساس المروّع بالهزيمة..
قراءة كتاب (الأجنحة المتكسّرة) لم تكن لذّة عابرة، هو مايشبه فكّ اللغز، لغز الكتاب والرموز، والشعر واللغة، وكيف أنْ يُغيّر كتابٌ ما مذاقك بعالم الكتب، فأنا لم أكن أبحث عن الحقيقة، ولا عن النهايات السعيدة للقصص، والموت الذي انتهت اليه الرواية، أيقظ في سؤال الموت والخوف منه، وحتى الخوف من الحب حين يتحوّل الى إحساس بالخراب والموت.
كلُّ ما في الكتاب كان مُفارقا لي، فلا حكايته سهلة أو واضحة، اللغة هي وحدها من كان يأخذني الى عالم آخر، وأحسب أنّ عاداتي في القراءة قد تغيّرت بعد ليلة الرياضيات والشباك المكسور، بعيدا عن قصص ارسين لوبين وشارلوك هولمز، وكتب المغامرات والسير والمغازي، وحتى عالم حكايات الأب عن أبطال أسكنوني بأوهامهم ورحلاتهم الغرائبيّة..
 
الكتاب ومابعده
ليلة انتهاء القراءة تحوّلت الى ليلة صاخبة، وكأنّي تذكّرته معها لحظة ارخميدس وهو يدور صاخبا (لقد وجدتها) فكلّ شيء أصيب بهذه الاعراض الارخميدسية، صورة المرأة تغيّرت، وصورة البطل الخارق والشاطر والمغامر صارت مضحكة، فامامي بطل مكسور لكنّه ساحر، ويقاوم بالحب، يصنع لأمكنته (قدّاسات) تمحو عن المكان ذاكرته الفاجعة، وهو ما أحسسته لحظتها، فلم أعد أجد في الشباك المكسور، ولا في أنثاه ذات الشغف القديم، حتى رحت أفكّر بنزقِ من يريد أن يكتب رواية لها أجنحة متكسرة، وبطلته تشبه صورة سلمى بقلقها وشحوبها، وحتى البطل الكاتب تخيلته يشبهني رغم خذلانه وعجزه.
بعد سنوات طويلة، وانا أعيش ما داهمتني به حرفة الكتابة، لم تغبْ عني لحظة جبران، ولا لحظة الشباك المكسور، وكأن هذا الكسر كان حدثا وجوديا مُفارِقا، لكي أطلّ على عالم آخر بعيدا عن رهاب الرياضيات، حيث عالم أنثى الشباك، وعالم السحر في الاجنحة المتكسرة، وعالم الاغتراب الثقافي بعد أنْ انكسرت صورة البطل القادم، بطل الحكايات الذي أوهمني بأنّ العالم خاليا من الشبابيك المكسورة والأجنحة المكسورة..