عبد الملك الحسيني
العراق ذلك البلد الذي عدّه المؤرخون مهد الحضارات، التي علَّمت الناس الحرف وسن القوانين ورفدت الإنسانية بشتى العلوم والمعارف لتصبح بغداد في نهاية القرن الثامن الميلادي أهم مدينة في العالم، وليمسي في نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين أحد البلدان التي تعاني التخلف والفقر وسوء الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، تكاد أسبابها وتفاصيلها تحاصر عقل كل مفكر أو كاتب ليس بالتعب فحسب وإنما بالحيرة في وصف علاج ناجع.
تعيش بلاد الرافدين اليوم أزمة حقيقيَّة تخص مفهوم بناء الدولة، إذ يبدو أنَّ كل النظريات الحديثة والقديمة التي زخر بها التاريخ السياسي بشأن هذا المفهوم قد وضعها حكام العراق الجدد وراء ظهورهم، مستبدلينها بنظرية جديدة ترتكز على تقاسم الحكم ومغانم السلطة طائفياً وعرقياً مع تأجيج العداوة بين شرائح الشعب من دون أنْ يضعوا في حساباتهم تحمل المسؤوليَّة التاريخيَّة عن حجم المأساة التي أوقعوا الوطن فيها.
وبدلاً من إدارة موارد الدولة والحفاظ عليها بل وتطويرها لتحقيق ازدهار اقتصادي وتنمية واعدة، وبناء نظام مؤسساتي رصين، سارعت أحزاب السلطة إلى إنتاج نظام المحاصصة الذي يضمن لهم مصالحهم دون الالتفات لمصالح الأمة.
خمسة عشر عاماً مضت من تجربة ديمقراطية أنتجت سلطة فاشلة وفقاً لقواعد الحكم الرشيد، ما تسبب بهدم كل جسور الثقة بين الدولة والمواطن، تكفي لإيصال رسالة توضح معطيات ما حصل بعد العام 2003 من وجود هدف أعمق من تغيير النظام، ربما يذهب بعيداً عن كل
التصورات.
ويبدو أنَّ عملية هدم الدولة بدأت من تحطيم موروثها الحضاري والعلمي والثقافي، وتعميق الفجوة الفكرية التي تقوم على أساس محاكمة التاريخ والمواقف وفق المعتقدات الطائفيَّة وجعل الإيمان بها معياراً للولاء والانتماء الوطني!! وبات واضحاً أنه هو الغطاء لشرعنة وجود الأحزاب الطائفيَّة وحكم العراق، بينما مظلة الديمقراطية والتعددية لم تكن سوى عنوان من أجل التضليل.
إنَّ إقحام المعتقدات الدينية في العمل السياسي وإدارة الدولة، كان خطأً متعمداً وفادحاً أسهم في تحطيم جسور التواصل والثقة بين أبناء الشعب الواحد، وعمل على استنبات بذور الخلافات وإجهاض مشروع الدولة الحديثة وقسم الشعب إلى طوائف وقوميات وأقليات.
أما الشعب فقد بات منهكاً من طول البحث والتفكير عن دولة مؤسسات ترعى مصالحه وتحافظ على وحدته، بينما حاول أولئك الذين غرروا به إقناع طوائفهم بأنهم جاؤوا ليدافعوا عن مظلومياتها المتعددة بحسب الاختلاف الطائفي والعرقي بينما يتقاسمون هم أنفسهم مغانم العيش الرغيد ليستبدلوا حلمه الواعد بـ"فيلم رعب" حقيقي عاشه على
أرض الواقع.
ومن السخريَّة بمكان أنْ تتم مثلاً محاكمة العهد العباسي الذي أصبحت بغداد خلاله عاصمة الدنيا ليصل الحال بالدولة آنذاك ألا تجد من يستحق الصدقات بعد أنْ فاضت الأموال جراء حالة الرخاء والازدهار، بينما يعاني العراق في ظل دعاة تلك المحاكمة من ارتفاع متصاعد في مستويات الفقر وتراجع وانحدار على مختلف الأصعدة المجتمعية والمؤسساتية.
فهل يحق للمتهكم أنْ ينطق لسانه فضلاً عن جنانه؟!