هناك من يُلقي الكلامِ على عواهنه غَيْرَ عابئٍ بكل الموازين، منطلقاً من أوهامٍ يحسبها حقائقَ وهي لا تسمن ولا تغني من جوع..!
- 2 -
والذي يحمله على ركوب هذه الموجة هو الغرور والنرجسيَّة..!! وتُصوّرُ له نَفسْهُ المنتفخةُ انّه مِنْ أهل الحكمة، وممن يملك القدرة على إرسال الإضاءات والنصائح الثمينة، مع أنّه في الواقع ليس من هذا الرعيل على الإطلاق..!!
- 3 -
وقبل إيراد بعض الأمثلة على ذلك، لا بُدَّ أنْ نشير الى ظاهرةٍ خطيرةٍ وهي أنَّ الكثيرين يُسارعون الى تداول ما يطرحه أولئك الادعياء، ويعتبرونه من النصوص التي لا بُدَّ أنْ تحظى بشأن عظيم.
وهذه الهرولة باتجاه المقولات الجوفاء، أمرٌ مُحْزِنٌ للغاية، إذ لا بُدَّ من التمحيص والتدقيق بدلاً من الإذعان والتسليم السريع بالمزخرفات من المقولات..!!
- 4 -
وقد يَزُجُّ بعضُ الشعراءِ نَفْسَه في هذا المضمار ويلبسُ جُبّةَ الواعظين، ويترنم بأبيات يرسلها واعظاً ناصحاً، ولكنها – عند التمحيص – تنطوي على كثير من الثغرات والهنات...
- 5 -
جاء في بعض المدونات التاريخيَّة.
عن عبد الله بن دينار:
(إنّ لقمان قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ،
فلقي غلاماً له في الطريق،
قال:
ما فَعَلَ أبي؟
قال:
مات،
قال:
الحمد لله ملكتُ أمري.
قال: ما فعلتْ أمي؟
قال:
ماتتْ،
قال: ذهب هميّ
قال:
ما فعلت امرأتي؟
قال:
ماتَتْ
قال:
جُدّد فراشي،
قال:
ما فعل أخي؟
قال:
ماتَ
قال:
انقطع ظهري، وفي رواية انكسر ظهري
تاريخ ابن عساكر ج30 ص29-30
إنّ هذه الحكاية التي تُريد أنْ تُبرز أهمية دور الأخ تستهين بالوالديْن الى درجة تعتبر فيها فقدان الأب نعمةً لا بُدَّ أنْ يحمد الله عليها..!!
وفقدان الأم نعمةً أخرى تُذهب الهَمّ،
وتعتبر فقدان الزوجة نعمة ثالثة، إذ سرعان ما تُختار زوجةٌ أخرى (للفِراش)..!!
أمّا المصيبة العظمى فهي فقدان الأخ...
إنها مصيبة تكسر الظهر، وتهدّ القوى...
ومع أنّ للأخ مكانَتَه المهمة في حياة أخيه إلاّ أنّها لا تعني الاستهانة بالوالدين وبشريكة الحياة..!!
وهكذا يتبّدى لنا: أنّ الحكاية مصطبغة بصبغة باهتة ولا تصلح أنْ تكون من الحكايات الباعثة على التزام الخلق القويم والنهج المستقيم.
- 6 -
وقال أحد الشعراء:
وإذا صاحبتَ فاصحبْ صاحباً
ذا عَفافٍ وحياءٍ وكَرَمْ
قولُه للشيء: لا إنْ قلتَ لا
وإذا قُلتَ نعم قال: نعمْ
وإذا كانت النصيحة التي أوردها الشاعر في البيت الأول صحيحة، فإنَّ الوصف الوارد لمن تصحبُه من الأصدقاء في البيت الثاني ليس بصحيح.
ما معنى أنْ يقول الصاحب لك (نعم) إذا اخترت "الرذيلة" وقدمّتَها على "الفضيلة"؟!
وكيف يسوغ القبول بموافَقَةِ صاحبك على كلّ ما يصدر عنك من أقوال وأفعال إذا كانت بعيدة عن مرافئ الصحة والاستقامة؟!
- 7 -
والخلاصة :
إنَّ علينا أنْ نكون في منتهى الحذر مِنَ الوقوع في فخاخ المقولات الناشزة، وما تنطوي عليه من أفكار لا تستقيم مع الثوابت الدينيَّة والأخلاقيَّة
والاجتماعيَّة.
إنها تنخر النظام التربوي العام للأسرة... وتدسُّ في ثنايا تقديم العسل الكثير من السموم...!!!