علي حمود الحسن
اختار الاخوة كوين، حياة الغرب الأميركي الموحش والكئيب لفيلمهما الجديد "ملحمة باستر إسكريجز" (2018)، وهو اختيار غير بريء البتة، فهذه ليست المرة الأولى، التي يخرجان فيها فيلماً عن رعاة البقر الهائمين، في البراري، قبلها قدما رائعتيهما "لا وطن للعجائز المسنين" (2007)، و"عزيمة حقيقية" (2010).
هذان المخرجان العبقريان، اللذان يكتبان ويخرجان وينتجان أفلامهما، بتناغم يصل حد التوحد، غالباً ما ينتجان أفلامهما بعيداً عن هيمنة هوليوود واشتراطاتها المعروفة، اعتمدا أسلوب "القصص المتنوعة" في معالجة فيلمهما، الذي تضمن ست قصص لا تشبه بعضها، إلا في كونها تتخذ من حياة رعاة البقر الكئيبة ميداناً لها، ودلالة حكاياتها، التي تحيل الى ثيمة زيف الحلم الأميركي بسعادة البشر في فراديس الدولار الباذخة، الفيلم أنتجته شركة "نتفليكس" ومثل فيه: (تيم بلاك نيلسون، وجيمس فرانكو، وليام نيلسون، وزوي كازان)، وأدار تصويره الفرنسي برونو ديلبونيل صاحب "الساعة الأكثر ظلمة" ووضع موسيقاه التصويريَّة الأميركي كارتر بورويل الذي ألَّف معظم أفلام الأخوة كوين.
لجأ الاخوان كوين الى حيلة سرديَّة طريفة لقص حكاياتهم البصريَّة، فثمة كتاب أخضر قديم عنوانه "ملحمة باستر سكويجز" تقلبُ يدٌ حانية صفحاته المزينة بصور حياة الغرب الأميركي المحتدمة، تماماً كما تقلب الجدات حكاياتها في ليالي الشتاء، لندخل في عوالم ست قصص تحكي جانباً من حياة الغرب الأميركي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ففي حكاية المفتتح "ملحمة باستر سكوريجز" يلوح لنا البطل الطريف باستر (تيم نيلسون) على فرسه وهو يجوب السهول والجبال وحيداً، إلا من غيتاره وصدى أغانيه الحزينة التي لخصت فلسفته، فهو مطلوب للعدالة حياً أو ميتاً، لأنه قاتل محترف ولا أحد يجاريه في سرعة إطلاق الرصاص، لكنه لا يريد سوى الوصول الى "الماء البارد" فالتجوال في البراري مملٌ ولا ينتهي، يدخل حانة يحاول تجنب الاقتتال لكنه يُجبرُ على قتل مجموعة أشرار، ويحتفي بانتصاره بالغناء، فهو الأسرع على الإطلاق، لكنه لا يُكمل مشواره، إذ يبارزه صائد جوائز يقتفي أثره ويقتله، لتصعد روحه بجناحين الى السماء حيث لا يوجد مكان للأشرار، وتتعاقب القصص التي غالباً ما ينتهي أبطالها بموت تراجيدي، فالحكاية الثانية والثالثة والرابعة أبطالها يحاولون الوصول الى حلم الثراء والسعادة، لكنهم يلاقون أقداراً صارمة، إذ كادوا أنْ يحققوا ما يريدون، إلا أنَّ تغيراً دراماتيكياً أنهى حياتهم وآمالهم معاً، فكل القوانين الوضعيَّة "لا تنقذ بطل الكاوبوي من حتفه"، ففي هذا العالم العنيف والعدمي لا توجد سببيَّة، إنما قوة أخرى خارجة عن إدراكه، فحينما يقف بطل الحكاية الثانية (جيمس فرانكو) أمام قاضٍ بويهيمي يقتعد الأرض بلا أدنى اهتمام يقضي بشنقه وهو بريء، على الأقل في جريمة سرقة المواشي، وفي اللحظة التي يُلبسه الجلاد الكيس الأسود، يرى فتاة أحلامه يبتسم لها فتبتسم له، ثم يشنق.
وتبدو الحكايتان الخامسة والسادسة أكثر أسى ومأساويَّة، وربما الأكثر تعبيراً عن حال حضارتنا غير المنصفة، ففي "تذكرة طعام" ثمة عربة مسرح تجوب الآفاق يقودها رجلٌ يبني مسرحه على ذات العربة ويرتب اكسسواراته، ليبدأ العرض الذي يتحمل أعباءه فنانٌ بلا أطراف (هاري ميلنج)، قدَّم أداءً صوتياً مؤثراً وهو يندب حظه "بكائي جعل السماء تنوح"، هذا المثقف الذي يحمله صاحب العربة كصليب، وهو يتردد في أنْ يبقيه أو يرميه بعيداً، هذا الفنان المثقف الذي لا يملك إلا الكلمات، لا يعرفُ أين يذهبُ وما جدوى وجوده أي عبث يعصف به، ليختتم الفيلم بحكاية "جثة ميت" وهي في تقديري الأكثر عمقاً وانفتاحاً على تأويلات لا تنتهي؛ جميعها تصب في عبثية الحياة ولا جدواها، فثمة عربة تقل مسافرين وتحمل جثة، الراكبون: أحدهم صياد نتن مغترب، وامرأة متدينة تتأبط الكتاب المقدس، وثمة قاتلان محترفان يمتهنان صيد الجوائز، يوحي القاتلان من خلال القص والغناء للباقين بأنهم ربما يكونون صيدهما الجديد وفي أجواء غرائبيَّة تتوقف أمام فندق، يترجل القاتلان وينزلان الجثة ويدخلانها الى الفندق الذي يوحي بأنه بوابة عبر الحياة الى الموت.
الفيلم الذي تناول كل هذا بروح تهكميَّة؛ مستخدماً حوارات مكثفة وأغاني طريفة ومعبرة وتصويراً على درجة عالية من الاتقان والتعبيريَّة العالية، لبلورة أفكار المخرجين ايثان (57 عاما) وجويل (1954)، وانتقادهما الحاد لبنية النظام الرأسمالي، ومحنة الفرد وتضاؤله إزاء معطيات النيوليبرالية، بعيداً عن "الحلم الأميركي" بالسعادة.