جواد علي كسّار
أعرف صديقاً من أصدقائي المقربين، عندما يصل كلامنا إلى المال، يقسم بحماسٍ: والله، أنا لا أحبّ المال! لم أجد ما أُواجهه به، وهو يكرّر هذا القسم مرّات، كلما انتهى الحديث بيننا إلى المال، إلا أن أُقسم له بالحماس نفسه، لكن على نحو معكوس: والله، أنا أُحبّ المال، ثمّ اقترحت عليه أن يجعل في بيته محفظة جانبية، يضع فيها ما يكرهه من المال، ويسلمه لي رأس الشهر، فتهرّب ولم يفعل!
لست أشك بصدق صاحبي ذاتياً، وبصدقي ذاتياً وموضوعياً، ومن المؤكد أنني لا أبغي مناقشة المسألة منطقياً، وكيف يتوارد السلب والإيجاب على قضية واحدة، فتكون صادقة وكاذبة في آنٍ واحد، بل أردت أن أعود بإشارات سريعة إلى مكانة النقد في تأريخ الأمم والشعوب، وحضارات الإنسان.
يذكر المؤرخون أن أوّل بلاء الإنسان مع النقد أو نعمته به، برز مع الآشوريين في أرض الرافدين، فهم أول من استعمل النقد المعدني وأنهى عصر المقايضة في حياة الإنسان، وهم أيضاً من وضع أسس الأنظمة البنكية، وذلك منذ نحو 2100 سنة قبل الميلاد. وحيث كان الذهب والفضة هما أساس النقد في التجربة الإنسانية؛ الذهب في المعاملات التجارية الكبيرة، والفضة في المعاملات التجارية البسيطة، فقد عرف اليونانيون العملات الفضية المسكوكة في العام 550 قبل الميلاد، في حين اتخذ الإسكندر الأكبر النقود وسيلة للدعاية له، بالإضافة إلى وظيفتها التجارية، حين نقش على النقود، شعار: «الإسكندر فوق الجميع»!
ظهرت العملة النقدية مبكراً في حضارة المسلمين، وسُكّ الدرهم والدينار بالفضة والذهب، وكان ازدياد وزن العملة ونقاء عيارها دليلين على الازدهار الاقتصادي، كما حصل مع الفاطميين. كما عُدّت العملات النقدية من المصادر المهمة في دراسة بعض جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تأريخ المسلمين، بل لم تخل من إشارات ذات دلالة على الحالة الدينية والثقافية، وأحياناً تكون مؤشراً على الصراعات، عبر ما سجّل عليها من أسماء الملوك والحكّام والأمراء، ومن شعارات ونصوص، فقد كان الحكّام السنة يكتبون في العادة، سورة الإخلاص بالإضافة إلى أسمائهم، في حين كان الحكّام الشيعة ينقشون على المسكوكات، عبارة: «علي وليّ الله» أو «علي خير صفوة الله» وما شابه ذلك بالإضافة إلى الآيات.
من روائع ما قرأته في تأريخ العملات، أن الحاكم المغولي كيخاتوا أريخن تورجي، أصدر عملة ورقية أُطلق عليها اسم «الجاو» ليغطي بها بذخه وترفه وإسراف بلاطه؛ رفض الناس التعامل بها فأجبرهم عليها، ما أدّى إلى اندلاع احتجاجات ضدّ الحاكم، دفعته لإلغائها.
لم أقصد تأرخة العملات النقدية، إنما جرّني إلى ذلك دراسة عن الجوانب النفسية للمال، أو ما أطلق عليه الباحث هوس الثراء وأمراض الثروة، وذلك حين تحوّل المال في أغلب اتجاهات الحياة الإنسانية، إلى كلّ شيء، فكان من نتائج ذلك، ان المال إذا كان كثيراً أصبح الإنسان مهووساً بإدارته، وإذا كان قليلاً أصبح مهووساً بالحصول عليه. ولما كانت كمّية المال محدودة، لا تكفي لملء جميع الخزائن بحسب الباحث، انتقل الناس إلى الشقاء بالثروة، من خلال اللجوء إلى الرشوة والاختلاس، والنصب والاحتيال، والتهرّب من الضرائب وأداء الحقوق، والبخل والإدّخار الشديد، بحيث تحوّل الصراع على المال، أشبه بقانون من أثبت قوانين حياتنا الإنسانية.
ليس في الأطر المرجعية للإنسان دينية كانت أو غيرها، ما يستخّف بالمال أو يقلل من أهمية الثراء والحياة الرافهة، لكن المشكلة هي في طبيعة العلاقة النفسية مع المال؛ هذه العلاقة التي حولته من وسيلة إلى غاية، مع أن الإنسان يمكنه أن يشتري بالمال الوسائل ولا يشتري الغايات؛ فقد يشتري بالمال الطعام، لكنه لا يشتري الشهية للطعام، ويشتري الدواء لكنه لا يشتري الصحة، ويشتري الوسائد والأسرَّة، لكنه لا يشتري لحظة نوم واحدة، على حدّ تعبير الباحث المصري أكرم زيدان، مؤلف كتاب: «سيكولوجية المال»!