أحمد خلف: الظرف الستينيّ لم يكُن ظرفاً عراقيّاً خالصاً
ثقافة
2018/11/29
+A
-A
بعد أربعين عاماً على صدورها.. طبعة جديدة من {نزهة في حدائق مهجورة}
أحد أبرز الأسماء القصصية والروائية في جيل الستينيات العراقي، حازت أولى قصصه " خوذة لرجل نصف ميت " المنشورة في مجلة الآداب البيروتية في العام 1969 على عناية نقدية لافتة، ومنها انطلق في عالم السّرد الرحب، ليرفد الأدب العراقي بمجموعة من منجزاته الروائية، عبر خمسة عقود من الكتابة المتواشجة مع ما هو إنساني وأدبي وأخلاقي، محتفظاً بخيط رؤيويّ وفلسفيّ خفيّ، طالما تمنّى أن ينظم صوته الروائي. الكاتب العراقي أحمد خلف، التقيناه، فكان هذا الحوار الخاص بـ {الصباح}.
• يعود اشتغالك السردي إلى ستينيات القرن الماضي، وفيما نشهد الآن جملة من التحوّلات في السّرد العراقي، كيف تنظر الى هذه التحوّلات ودرجة تمثيلها للواقع العراقي المحتدم مقارنة بالنماذج العربية الأخرى؟
حاوره في بغداد/ حسن جوان
• يعود اشتغالك السردي إلى ستينيات القرن الماضي، وفيما نشهد الآن جملة من التحوّلات في السّرد العراقي، كيف تنظر الى هذه التحوّلات ودرجة تمثيلها للواقع العراقي المحتدم مقارنة بالنماذج العربية الأخرى؟
- السّرد العراقي ولا سيما في الرواية والقصة، انطوى على مجموعة مراحل مهمة وأساسية، فمن ناحية تاريخية يمكن المرور بها، لكن دعنا نتناول بعض الاتهامات السابقة، التي يأتي ضمنها أن السرد العراقي لا يواكب التحوّلات، رغم أننا نعلم أن الثقافة عموماً هي نتاج ظروفها ومجتمعها، فضلاً عن الى المؤثرات الخارجية الأخرى.
السرد العراقي لم يشهد ابداً واقعاً مستقراً، أو فترات ممتدة السلم، لينتج رواية شبيهة بالرواية المصرية التي تستند الى واقع أكثر استقراراً، والفرق في ذلك أن الرواية تلك قد أتمّت شروطها الثقافية والسياسية والمجتمعية، بينما نحن ما زلنا نعاني من تسلطات وآراء تحجم كثيرا أداء الكاتب، وتسيء الى العملية الإبداعية بصورة عامة.
• كان التجييل العَقدي رابطاً قرائياً في ما مضى، لما يتشارك به المتجايلون من تأثيرات وانفعالات، ألا تعتقد انّ هذا المُرتكز في التصنيف النقدي، قد بدأ ينفرط لصالح معايير بديلة؟
- مرحلة الستينيات مرحلة شائكة لا استطيع أن اختصرها، لأنها أبرزت عدداً كبيراً من الكُتّاب والفنانين، ولكن لابأس من القول ان الظرف الستيني لم يكن ظرفاً عراقياً خالصاً، أي أنّ مجموعة عوامل عالمية تضافرت بسبب من الانفتاح الكبير على التجارب الأوربية والعالمية دون تحفّظ. وكان الكاتب العراقي الذي انطلق من الضواحي الفقيرة في الغالب، يعد نفسه بوعي - قارئاً للواقع ومنتقداً له. عملية النقد هذه تعكس وعي الكاتب وتؤكّد أنّه لا يكتب حكايات، إنّما يُشكّل موقفاً، وهذا الموقف مطالبٌ به كلّ من يحترم الساعة التي يجلس فيها الى الكتابة، نحن لسنا قصّخونية، نحن كتاب نلتزم بمواقف سياسية وثقافية، وننتسب الى العصر الحقيقي للسياسة العراقية التي هي في الهامش غالباً، ولا اقصدُ بها السياسة الرّسمية، إنّما أقصد هذا الامتزاج الروحي بين الشعر والقصة وبين متطلبات أبناء شعبنا.
• في مراحل سابقة كان دور الرقيب يتفاوت حدّة، سواءٌ أكانت رقابة أيديولوجية أو ثقافية، ألا تعتقد أننا نشهد مرحلة أقل تسلّطاً في هيمنة الرّقيب؟
- العلاقة الجدليّة بين الكاتب والرّقيب في العهد السابق، كانت تنطوي على جناحين، فمعظم رقباء النظام هم من الأدباء، فإمّا أن يكون الرّقيب صديقاً للكاتب ويحاول أن يتجاوز الألغام الموجودة في النّص الى حدّ ما، فهو لا يغامر بحياته طبعاً، أو ان يغضّ الطرف بعض الأحيان، وحصل معي هذا الأمر، عندما غضّ الرقيب النظر عن مجموعتي القصصية " خريف البلدة " التي كانت واضحة بإدانة السلطة الغاشمة في قمع الانتفاضة الشعبية عام 1991، وكان الرقيب واحداً في كل الجوانب الثقافية والسياسية والاجتماعية، أمّا الآن فلا يوجد رقيبٌ واحدٌ، بل هنالك أكثر من رقيب، وهذا الأخير لا يقرأ النّص، ولم يصدُف أن قال لي رقيبٌ حاليّاً بأنه قرأ لي أيّ رواية أو قصّة، لكنه قد يفاجئني بأن يقول لي إنّ في كتاباتك ما يسيء إلى الدّين أو المجتمع أو العائلة أو الدولة، لأن هذه الملاحظات لا تأتي إلّا كنتيجة لوشاية وليس لقراءة من رقيب، ولا يمكنك محاولة إقناع هذا النوع من الرّقباء بوجهة نظر، أو إعادة قراءة أو تأويل، لأنه عادة ما يكون شخصاً غير مثقف.
أنا أنبّه هنا، أنّه قد يُفهم من كلامي هذا أنني أميل الى الرقيب السّابق، وهذا ليس صواباً، لأنني لا أقبل أصلاً بأيّ شكل من أشكال الرقابة، لأن الكاتب يتمتع ضمنياً بسلطة ثقافية ومجتمعية، وهذه السلطة لم نتمتع بها في وقت ما، بحكم استقلالنا عن أية سلطة أخرى خارج
الثقافة.
• وسط هذا التواشج بين عناصر إنتاج النص، كيف ترى الى محنة ما هو فردي وسط الجماعي، أم أنك تُقدّر أنّ الطرفين يعبّران عن ضرورة إبداعية
وتفاعلية؟
- في غالب نصوصي تناولت شخصية المثقف، ليس ذلك النوع المنكفئ ولا المتماهي كليّاً في وسطه.
كنت أُشير دائماً الى ضرورة أن يكون للمثقف وشائج مع مجتمعه. مع ذلك، أنا أعتقد أنّ ثمّة جدلاً قائماً بين الكاتب وبين مجتمعه، وهذا الجدلُ لن ينتهي يوماً، لكنّ الكاتب الماهر هو من يستطيع أن يجسد هذه الوحدة الشفّافة بينه وبين مجتمعه.
• في ضوء هذه الوحدة الشفّافة، هل تسعى أثناء الكتابة الى إيجاد منطقة تفاهم بينك وبين القارئ، أن تكتسبه الى جانبك
مثلاً؟
- من ناحيتي، لا أفكّر بقصديّة أثناء الكتابة بالآخر، لكنني أكتب النّص حتى أصل الى درجة الاعتقاد، أن هذا النّص هو جيّد جداً، ويخامرني الكثير من الاعتقاد، أنني ساكسب المزيد من القُرّاء في هذا النّص الجديد، وقد أدركت بعض النتائج الممتازة في تجربتي
تلك.
• كنتَ قد وظّفتَ الكثير من المرجعيات الميثولوجية والتراثية، كيف تضبط زمنية هذا التوظيف إزاء أناك السّاردة؟
- التجريب هو دائماً عودة الى البداية - حسب المقولة – وأنا شخصياً أمزجُ التاريخي بالواقعي، مع اشتراط وجود المخيّلة القادرة على تذويب هذه العناصر معاً، لذا أعتبر نفسي صاحب مشروع يتضمّن قراءة التاريخ والأسطورة وحركة المجتمع واستثمار كل ما يمكن توظيفه.
• كيف أحبّك الشاعر مظفر النوّاب، واكتشف فيك راوياً فتيّاً؟
- تلك قصة بعيدة، عندما كنتُ تلميذاً في مدرسة بمنطقة الكاظمية، حيث كان الشاعر النواب مدرّساً للغة العربية، وقد طلب إلينا أثناء درس الإنشاء طلباً كان مبتكراً آنذاك وهو: أكتُب إنشاء.. كما تشاء!
نعرف أنّ المدرّسين دائماً ما كانوا يحدّدون الموضوع ولا يتركون الخيار حراً
للتلاميذ.
فكان أن شكّلت هذه الحرية من قبل "استاذنا" محفّزاً للمخيّلة لديّ، فكتبت موضوعاً عنوانه " موتُ فلّاح " يستند الى حكاية سمعتها من والدي عن قريتنا في مدينة الديوانية " من حيث تنحدر أصولي العائلية في الشنّافية" ، فكان أن انتبه " أستاذ مظفّر " أن غالب التلاميذ كتبوا إنشاءً معهوداً، لكنّ " أحمد " كتب شيئاً فيه عنصر " روي " فطلبني أمام زملائي وأشار إليّ قائلاً : أنت ستكون كاتباً، وتحدث النواب الينا – انا وبعض التلاميذ الذين أشاد بهم – عن اصطحابنا الى اتحاد الأدباء وزيارة المكتبة، ووعد بتشكيل جمعية منّا اسمها " جمعية الأدب والفن في الفجر الجديد " حسب اسم المدرسة.
واستمرت علاقتي الوفية لأستاذي سنوات بعد ذلك، حتى أثناء اعتقاله في سجن الحلّة إثر انقلاب 8 شباط 1963، وقد خصّصت له فيما بعد، فصلاً كاملاً في روايتي " الحلم العظيم" التي تتحدث عن انتفاضة الأهوار آنذاك، وهي من أقرب رواياتي الى نفسي.
• هل حاولت تمرير آرائك السياسية والثقافية عبر أعمالك الروائية كما فعلت في " الحلم العظيم"؟
- في العموم أعتبر أن موقفي السياسي والثقافي تجاه الظواهر الاجتماعية الكبيرة واضح تماماً، لكنني أعتقد أن أفضل طريقة للوصول الى جوهر الكاتب هي نصوصه، وهذه هي ذات الطريقة التي اكتشفنا فيها بأنفسنا، ميول كل كتاب العالم الذين لا تربطنا بهم صلة مباشرة.
• لماذا برأيك، وعلى الرغم من الانفتاح الإعـــــــــلامـــي الكبير الآن، لم تنَل الرواية العراقية بعدُ نصيبهـا الوافي من العنـــــايـــة النقـــــــديـــة العربيــة؟
- هذه المعضلة لم تكن كبيرة في الستينيات والخمسينيات من القرن الماضي، مع أنّ وسائل الاتصال على بساطتها حينذاك، كانت تصل الى بغداد مطبوعات عربية كثيرة وجيدة، وكان الكثير من الكُتّاب العراقيين ينشرون في تلك الصحف والمجلات، لكن المشكلة تفاقمت بعد تدخّل الدولة لاحقاً في الأدب، وهذا جعل الكثير من المثقفين العرب ينظرون الى الأدب العراقي باعتباره أدباً رسمياً، ولا يجترح أو ينتقد الواقع.
هذا من ناحية الدولة وهيمنتها، لكن من ناحية أخرى هناك سبب مهم يكمن في تقاعس الكاتب العراقي وعدم تنشيط علاقته ومراسلاته بالأوساط الأدبية العربية الأخرى.وهنالك أسباب كثيرة مركبة بهذا الخصوص.
• أتذكّرُ أنّك تمنّيت لو أنّك تخصّصت في الفلسفة، وهو ندمٌ أفصحت عنه في موقعك الالكتروني الشخصيّ قبل أيام، هل هذه الأمنية حقيقية؟
- كنت أتمنى أن أنغمس في الفلسفة، لا سيّما في بداياتي، لكنني انبهرتُ لاحقاً بعدد من الروايات مثل الأحمر والأسود ومدام بوفاري وزقاق المدقّ وموبي ديك التي أقنعتني بأنّ الرواية فعلاً، قادرة أن تقف بموازاة الفلسفة، وعند الانشغال بهكذا أعمال كبيرة فإن العالم الفلسفي يكاد يتوارى.
• كيف كانت علاقتك بجيلك الستينيّ، بخاصّة أنك استشهدت يوماً، جواباً على حديث الجيل بمقولة سارتر " كانوا ما كانوا وكنتُ ما كنتُ"؟
- علاقتي بجيل الستينيات هي علاقة عضوية، ورغم تمايز هذه الجيل عن غيره – دون قصد المفاضلة مع آخرين- إلّا أنّ الظروف الموضوعية لعبت دوراً مهماً جداً في تكوين وعي وعقلية هذا الجيل، حروبٌ وانقلابات داخلية، الى ثورات طلابية عالمية، كاسترو وغيفارا وهوشي منه، كلها عوامل يخطئ من لا يعتقد أن لا تأثير لها في جيل الستينيات العراقي، لذلك كان هذا الصخب السياسي والثقافي والاجتماعي يتمتع بهذا الدور في إنضاج تلك
المرحلة.
• كيف تلّمست طريقك وسط هذا الصّخب والجيل الذي وصفته؟
- في العام 1969 كانت بدايتي الحقيقية بنشر قصتي " خوذة لرجل نصف ميت " في مجلة الآداب البيروتية، التي كان يشرف على تحريرها الراحل سهيل إدريس، وقد لاقت استحساناً نقديّاً وكتب عنها حسين مروة، ومحمد دكرور، وغيرهم في نفس المجلة، مما جعلها تأخذ حيّزاً جيداً من الاهتمام، وترسّخت مكانتي بين شباب جيل الستينيات في فترة قصيرة.
• لكل منا ذخائره الخاصة، بعدما يقطع شوطاً بعيداً في حياته، ماذا يدّخر الكاتب من ذخائر بعد مسيرته هذه؟
- الروائي يبدأ ببناء كاتدرائيته السردية، مبنى خاص به، وذخيرته تتمثل في كل عمل روائي جديد يضيفه على هذا البناء.
مفهومي للذخيرة هو التراث الشخصي للكاتب، وعندما يأتي باحث يوماً ما لدراسة كل ذلك المنجز، فإنّه سيفتح ذلك الصندوق المفعم من اللُقى والذخائر.