محطات تأملية في رواية {صِراخُ النَّوارس»

ثقافة 2018/11/29
...

نعيم آل مسافر
 
 
   تبنى الرواية على سرد شاب بغدادي لأحداث سفرة عائلية, إلى بحيرة سياحية في طفولته، مع  والده ووالدته وعمه، عندما كان عمره 13 عاماً، تلك السفرة التي غيرت مجرى حياته إلى الأبد، ويحكي أيضا مشاهداته عن أبيه العائد من الأسر, وقد حطمته الحروب؛ فجعلت منه بقايا رجل مُعاق إثر إصابة ظهره بشظية سببت له عجزاً جنسياً؛ فأضحى ذلك المحارب القديم المضحي كثير الصمت غريب الأطوار, يعاني خيانة أقرب المقربين له (زوجته وأخيه) ذلك الأخ الذي كان له بمثابة الأب الذي رباه وعلمه. هنالك كثير من المحطات في هذه الرواية الغنية، التي تدعو القارئ للتوقف عندها, وتأملها, ومحاولة تأويلها, ومنها:
 
الشخصيات
 شخصية الشاب, السارد المشارك في الأحداث, الذي يحاول أن يكتشف الجوانب الغامضة والمحيرة في سلوك الآخرين، ويحلل تصرفات أبيه وأمه وعمه، لكنه مع ذلك يترك الكثير من تصرفاتهم وجوانب من شخصياتهم مبهمة! رغم أنه ألزم نفسه بتحليلها! وأيضا هناك بعض الأحداث التي يؤكد عليها أكثر من مرة، وهي ربما محاولة من الكاتب إعطاء فسحة للقارئ كي يتأمل ويؤول تلك الأحداث ليكون مشاركاً في السرد، ومنها ذلك الحدث الذي يرتبط بقضاء الأب معظم وقته صامتا يصطاد الأسماك في البحيرة, ويعيدها إلى الماء! ولا يفهم الابن السر من وراء ذلك، ولا الزوجة التي تقول له "لو تعاملني مثل هذه الأسماك اللعينة وتطلقني" وأيضا حديثه عن ميله لأبيه وتعاطفه معه و تحمل عقوباته ومشقة مرافقته إلى البحيرة كل يوم, في حين ينفر من أمه التي يشك في علاقتها المشبوهة. والتي تكرر عليه أن أباه لم يعد رجلاً، بينما هو يصر على رفض ذلك كل مرة، لكنه لا يقدم لنا دليلاً أو سبباً لإصراره على رفضه، ويُفترض كبنية منطقية للرواية أن يقدم لنا تفسيرا لهذا الاصرار، لأن الزوجة أعلم بزوجها من أي أحد بمثل هذا الأمر كما هو معروف. 
كما ان هناك أحاديث سرية تجري بصورة مبهمة بين أمه وعمه، يدعي أنه لا يفهمها رغم أنها مفهومة من خلال سياق الرواية. وأيضا هناك العقاب الذي يتلقاه من والده أمام أمه وعمه, بينما هو يبكي عليه, ويقول له لست المقصود بهذا العقاب. إذن فأبيه يشك بالعلاقة لكنه يصمت وهذا يثير حيرة الابن، ويحير القارئ أيضا، فمن خلال السرد تبدو الأحداث واضحة! فلماذا لا يفهم الإبن؟ ولماذا يسكت الأب؟ تحاول جدته إقناع ابيه بعدم إتهام زوجته، وأيضا إقناعه بعدم إتهام عمه لاحقا بمقتل أبيه. ويركز أيضا على أن ابيه كان يقول له عندما كانا يتحدثان بأن عمره ١٠ سنوات وهو 13 سنة! حيث يبدو انه يسعى لخلق شك لدى القارئ من أن عمه هو والده الحقيقي. 
 
التقنيات والآليات
   يبين الكاتب من خلال جمل اعتراضية على لسان الشخصية الرئيسية, انه يتحدث الآن في حاضر السرد, وهو شاب, وانه قد فهم الكثير من الأشياء التي لم يكن يفهمها كطفل. كما ان الرواية تستخدم آلية الحلم في مقتل والده،  وتظهر في أحلامه ايضا خيانات أمه وعمه، وهنا تبرز بصورة واضحة العلاقات التناصية للرواية مع مسرحية (هاملت) لشكسبير، ومن ثم وبعد زواجه تظهر زوجته في تلك الأحلام.
   يستخدم الروائي جملاً اعتراضية لتوضيح انتقاله في زمن السرد من الماضي إلى الحاضر أو لتحليل بعض الأشياء, وهذا مما رفع من فنية الرواية وتقنيتها. وقام ايضا بعملية التداخل بين الزمن الماضي و الزمن الحاضر, وبين حوادث مختلفة في الزمنين, كموت والده وموت عمه، دون أن يحصل لدي ـ كقارئ ـ أي قطع أو توقف للتساؤل.
 
 البنية الاطارية للرواية
    ربما هناك التباس يحدث للقارئ عند قراءته للرواية، يرتبط بالبنية الاطارية لها، حيث يظهر ان الراوي/ الشاب يوشك على مغادرة بيته في رحلة عمل، وهو قلق بشأن زوجته التي لا يصطحبها معه في سفرته تلك، ويشترط عليها أن لا تبقى وحدها في البيت مع عمه؛ فيتصور القارئ أن الرواية ستكون بمجملها عبارة عن استذكار هذا الشاب لماضيه، لكن السارد يعود ليصرح "ويعذبني شعور موجع حتى هذه اللحظة وأنا أكتب هذه السطور بعد كل هذه السنين" ص٩١, وهذا يقود قارئ الرواية الى بناء عدة تساؤلات أو افتراضات لبنية الرواية: 
هل أن السارد يكتب رواية؟ أم مذكرات؟ أم اعترافات لشخص ما؟ اذ انه يترك الأمر مبهماً دون أن يصرح بشيء أو يعطي القارئ إشارةً أو مفتاحاً لماهية ما كان يكتبه الشاب/السارد, المشارك/المؤلف, وهنا قد يحدث التباس لدى القارئ, وربما يفتح الباب أمامه, لبناء عدة تأويلات كما ذكرت آنفاً, وهذا من مميزات هذه الرواية الشيقة..