ثنائيّةُ المُعلّمِ والتلميذِ

ثقافة 2018/11/29
...

محمّد صابر عبيد
 
ثنائيّةٌ تاريخيّةٌ حضاريّةٌ باهرةٌ هي ثنائيّةُ المعلّم والتلميذ حين يصلُ التناغمُ المعرفيّ والاجتماعيُّ والثقافيُّ والإنسانيُّ إلى إيقاعٍ استثنائيٍّ فريدٍ لا يتكرّرُ، ولها في تراثِنا العربيّ صفحةٌ مزدهرةٌ من صفحاتِ القيمةِ والوفاءِ والازدهارِ والعلمِ والمعرفةِ حين كانّ المعلّمُ يُسمّى شيخاً، هذه الثنائيّةُ الفاتنةُ أخرجتْ الكثيرَ من القصص والحكايات والأخبار عن أسطورةِ الوفاء التي كان التلميذُ فيها ينظرُ إلى شيخِهِ بوصفه إلهاً آخرَ يستحقُ كلّ التبجيلِ والاحترامِ والإذعانِ، إذ لا ينفكّ التلميذُ عن مصاحبةِ شيخِهِ مثلّ ظلّهِ ليتعلّمَ منه دروساً لا تنتهي داخلَ الدرسِ وخارجَهُ، فلم تكن التلمذةُ تقتصرُ على الدرسِ مهما كانت أهميّتُهُ بل تمتدّ نحو ما قبلَ الدرسِ وما بعدَهُ، إذ لا يتركُ التلميذُ شاردةً ولا واردةً في حياةِ شيخِهِ من غيرِ أن يتعلّمَ منها شيئاً يطوّر فيها شخصيّتَهُ المنفتحةَ على أقصى درجاتِ التعلّمِ والبحثِ الجميلِ والدؤوبِ عن المعرفة.

تقومُ هذه الثنائيّةُ على أسبابٍ عديدةٍ، منها ما يعملُ في حقلِ المعلّمِ ومنها ما يعملُ في حقلِ التلميذِ، ينبغي على المعلّمِ أن يكونَ ذكيّاً بما فيه الكفاية ليعرفَ كيف يقدّمُ معرفتَهُ العلميّةَ وتجربتَهُ الإنسانيّةَ لتلميذهِ بأسلوبٍ مثاليٍّ على المستويات كافّةً، من حيثُ الزمانُ والمكانُ والصيغةُ والأداءُ والدرجةُ والمساحةُ والاستمرارُ والبناءُ والتراكمُ وغيرها، ويجبُ على التلميذِ في الوقتِ نفسِهِ أن يكونَ ذكيّاً ونشيطاً ومتلهّفاً للاغترافِ من معرفةِ أستاذهِ وخبرتِهِ وتجربتِهِ وصفاتِهِ وأسلوبِهِ، على النحو الذي يتحوّلُ فيه إلى أرضٍ عطشى تتشرّبُ عطاءَ المعلّمِ لترويَ مناطقَ العقلِ والروحِ كلّها بطريقةٍ سهلةٍ ميسورةٍ لا أثرَ فيها للتكلّفِ أو المبالغةِ أو الادّعاءِ، ولا تتحقّق مفاعيلُ الذكاءِ على هذا النحوِ من دون حضورِ الحبّ المتبادلِ بينهما ليصلَ إلى درجةٍ عاليةٍ من الإيمانِ والثقةِ والانتماءِ.
 
تون ونصف
الأمثلةُ في هذا السياقِ كثيرةٌ جداً على أصعدةِ المعرفةِ البشريّة بحيثُ يحتاجُ التنويهُ بها إلى مجلّداتٍ لا حصرَ لها، لكنّنا سننتخبُ في هذه المناسبةِ أمثلةً بسيطةً حيّةً من واقعٍ يعرفُهُ ويفهمُهُ الجميعُ، فالموسيقارُ المتميّزُ محمّد عبد الوهاب كان مثالاً للمعلّمِ في علاقتِهِ الحميمةِ الصادقةِ مع المطربِ عبد الحليم حافظ، ومع مجايليهِ من الموسيقيين الذين كان يثقُ بإمكاناتهم الفذّة في مجال التلحين الموسيقيّ، إذ تحدّث الملحّن محمّد الموجي في لقاءٍ مُتلفزٍ عن تجربةِ تلحينِهِ لأغنيةِ أمّ كلثوم (اسأل روحَك) قائلاً: اتصلَ بي عبد الوهاب صباحاً بعد أن سمعَ أمّ كلثوم تؤدّي الأغنيةَ أوّل مرّة وهمس لي بأنّه يجب أن أنزلَ في موسيقى الأغنيةِ (تون ونصف) كي يكون مناسباً لصوتِ السيّدة، وفعلاً فعلتُ ذلكَ مباشرةً لتصل أمّ كلثوم في الحفلة الثانية إلى قمّة الأداء اعتماداً على ملاحظةِ عبد الوهاب، يقول: فاتصلَ بي بعدها وقال: (غنّينا كويس النهارده) بصيغةِ الجمعِ لأنّه يعدُّ نفسَهُ شريكاً في النجاحِ، ولو لم يكن معلّماً أصيلاً ناجحاً لتركَ الخطأ على حالهِ في مضمارِ المنافسةِ التقليديّةِ التي يسعى فيها كلُّ واحدٍ من أصحابُ المهنةِ الواحدةِ (الكار) إلى النجاحِ على حسابِ صاحبِهِ ولو خفيةً. بمعنى أنّ عبد الوهاب كان ينظر إلى نجاحِ الموجي نجاحاً له وللموسيقى العربيّة فهو عرّابُها وأحدُ سدنتِها الكبار.
كان عبدُ الوهاب ينظرُ إلى عبد الحليم المطرب الشاب الصاعد نظرةً مليئةً بالمحبّةِ والتفاؤلِ والوعودِ الرائعاتِ القادماتِ، ويبادلُهُ عبد الحليم نظرةَ الحاجةِ الودودةِ إلى رعايةٍ من لدنٍ فضاءٍ موسيقيٍّ إنسانيٍّ يحتضنُ ما يشعرُ به من موهبةٍ كثيفةٍ تسكنُ أعماقَهُ، فنشأتْ بينهما صداقةٌ إنسانيّةٌ تتعالى على كلّ ما دونها من أوصافٍ وتعريفاتٍ واشكالٍ لتصبحَ نموذجاً راقياً في إنتاجِ الإبداعِ والحداثةِ والجمالِ، حين أدركَ عبدُ الوهاب بحسّهِ الموسيقيّ والثقافيّ المُرهَفِ أنّ عبدَ الحليم خُلِقَ ليكونَ مطرباً فنّاناً من نوعِ استثنائيّ، إذ وجدَهُ مطرباً تعبيريّاً يتماهى مع ذاتِهِ وفنّهِ وجمهورِهِ على نحوٍ لا يُضاهى غناءً وتمثيلاً وحياةً.
يرتبطُ عبدُ الحليم كما يرى معلّمُهُ بعلاقةٍ نوعيّةٍ مع الجمهور، فهو يندمجُ مع جمهوره ليكونَ قريباً منهم إلى أعلى درجةٍ ممكنةٍ، محطّماً في ذلك كلّ الحواجز الكلاسيكيّة الأكاديميّة بين المبدع وجمهوره، فهو مطرب يعيشُ بإحساسهِ ويتعاملُ به مع الأشياء على أساس فعاليّةٍ حسيّةٍ مباشرةٍ تديمُ حالةَ التوهّج المُنتِج بين الطرفين، فهو يتّحدُ بفنّهِ اتحاداً مطلقاً وينظرُ إلى جمهورِهِ بوصفه أسرتَهُ وعالمَهُ وفضاءَهُ الوحيدُ، متطلّعاً إلى حنانِ هذا الجمهورِ وعشقهِ له بوصفه ملاذاً ومُخلّصاً ممّا يعانيهِ من ألمٍ بسببِ مرضِهِ المعروف وانتكاساتِهِ الصحيّةِ المتكرّرةِ.
 
دروس مهمة
يضربُ عبدُ الوهاب مثلاً أكثرَ عمقاً ودلالةً حولَ علاقتِهِ بتلميذِهِ النجيبِ القادمِ من أرضِ الموهبةِ الساخنةِ المندفعةِ إلى أمامٍ بمغمرةٍ وتحدٍّ وثقةٍ عاليةٍ بالنفس، حين يطالبُ له من شركاتِ إنتاجِ (الاسطونات) والأفلامِ بأجرٍ أعلى من العقد المُبرمِ معه يصلُ إلى الضِعفِ أحياناً، وحين يعترضُ أصحابُ الشركاتِ على ذلك بوصفه مخالفاً للعقدِ كان المعلّمُ يقول لهم: أنا رجلُ إحساسٍ ولستُ رجلَ عقودٍ، حتى يُنصفَ تلميذَهُ ويحرّضَهُ على نجاحٍ أكبر ويوفّرَ له حياةً أرقى وأكثرَ رحابةً وبهجةً. 
وتذكرُ الفنّانةُ فاتن حمامة إنّها حينما سمعتُ نبأ وفاةِ عبد الحليم هُرعت مباشرةً إلى بيتِ عبد الوهاب كي تقفَ إلى جانبِهِ في هذه المحنةِ، وحين دخلتْ عليهِ وجدتهُ يذرعُ غرفةَ الاستقبالِ جيئةً وذهاباً بِحَيرةٍ مذهلةٍ وصوتُ عبد الحليم يملأ البيتَ بقوّة من آلةِ التسجيلِ بحيثُ لا يريدُ سماعَ شيءٍ سوى صوتِ عبد الحليم وهو يردّدُ مع نفسِهِ: يا لخسارةِ الغناء
العربيِّ.
إنّها دروسٌ عظيمةٌ في المحبّةِ والرُقيِّ والتحضّرِ والتمدّنِ قد لا تتكرّرُ للاسفِ، ولربّما لم يعدْ لنا معلّمون كبارُ يبلغونَ هذه المرتبةِ بجدارةٍ ولا تلاميذ يستحقّونَ رعايةَ معلّميهم إلّا ما ندر، هذه الثنائيّةُ الفاتنةُ تحوّلتْ – ويا للفجيعةِ - إلى صراعٍ على المكاسبِ والغنائمِ والمناصبِ وسقطِ المتاعِ بين المعلّمين وتلاميذهم، التلميذُ الذي تربّى في حضنِ أستاذِهِ ورضعَ من عقلِهِ ومحبّتِهِ يطلبُ المساواةَ معه فكلاهما يحملُ درجةَ الأستاذيّةِ ولا فرقَ بينهما في المعايير الأكاديميّة!!!
سُحقت القيمُ والتقاليدُ والأصولُ بعد أن تعرّضت المعرفةُ لأقسى حالاتِ التهديمِ والمحوِ بمعاول التخلّفِ والغباءِ ونكرانِ الجميلِ وعزلِ فضاءِ الحبِّ والجمالِ، وكثرت الأكاذيبُ والادّعاءاتُ والمزاعمُ والبطولاتُ الدونكيشوتيّةُ الباطلةُ على أنقاضِ هزيمةِ الحقِّ والعدلِ والوفاءِ والأصالةِ والثقافةِ والحريّةِ، ولاتَ ساعةُ مندمٍ.