حينما اكتشفت كيب تاون أنها غنية بالماس

بانوراما 2020/01/25
...

نيك دال
ترجمة: بهاء سلمان
لم تكن الحياة سهلة داخل مزرعة تابعة منطقة شمال مقاطعة كيب القاحلة والمجدبة، وهي الركن الأفقر ضمن المستعمرة الفقيرة؛ وكان والدا ارسموس جاكوبس يعيشان في وضع عوز شديد لدرجة عدم امكانيتهما توفير لقمة العيش له إلا بالكاد، ناهيك عن عدم شراء الألعاب، بالتالي لم يكن أمامه وأمام شقائه وأقاربه سوى اللعب بالأحجار البلورية المتعددة الألوان التي يجدونها عبر ضفاف نهر اورانج.
كان ارسموس أحيانا يجد قطعا رائعة الجمال، وانجذب الجار "شالك فان نيكريك" بشكل كبير لأحد الأحجار التي شاهدها ملقاة على أرضية كوخ عائلة جاكوبس المتواضع، ليعرض على الأب شراءها. ضحك جاكوبس على الفكرة، قائلا: "بامكانك الاحتفاظ بالحجر ان رغبت في ذلك". وتقول بعض الروايات ان الحجر كان قد وجد سنة 1886، وأخرى تؤكد ايجاده سنة 1867، وبعضها يشير الى أن ارسموس هو الذي وجدها، بينما أشارت غيرها الى شقيقته الأصغر عمرا منه. لكن هناك شكوكاً قليلة حول ما حصل بعد ذلك، بحسب ياير شيمنسكي، مالك وأمين متحف الماس لمدينة كيب تاون، إذ سلّم نيكريك الجوهرة الى بائع متجوّل اسمه جاك اوريلي، الذي وعد بتقييم ثمنها بدقة. لم يظهر أي شخص عرضت عليه الماسة في بلدتي هوبتاون وكوليسبيرغ اهتماما كافيا، لكن اوريلي نجح في نهاية المطاف باقناع قاض محلي بارسال الحجر الى وليام اذيرستون، عامل التعدين المبتدئ في بلدة غراهامستاون البعيدة، بغية تقييم ثمنها.
 
تقديرات مهمة
رغم ارسال الحجر الى اذرستون بلا ختم أو تغليف، داخل ظرف مفتوح، فقد لاحظ على الفور ماهية قيمتها. وفي رسالة بعثها الى سكرتير المستعمرة ريتشارد ساوثي، يوم 2 نيسان 1867، وصف اذرستون الحجر بكونه "ماسة حقيقية" تزن نحو عشرين قيراطا. وجاء ضمن رسالته: "انها تقطع، لا تخدش، الزجاج بسهولة، وجاذبيتها الدقيقة تبلغ 3,5343، إذ تتراوح النسبة للماس بين 3,5295 الى 3,6". وسرعان ما دعم رأي اذرستون من قبل خبراء آخرين في كيب تاون؛ وتم بعد ذلك شحن الحجارة، التي سميت يوريكا، الى لندن، إذ سعّرت بمبلغ 500 باوند (600 ألف دولار حاليا) من قبل صاغة الملكة فكتوريا. وبعد مفاوضات طويلة، بضمنها مزاعم من جار آخر باكتشاف الحجر في أرضه، اشترى فيليب وودهاوس، حاكم مستعمرة كيب، الماسة مقابل 500 باوند.
هذه كانت نهاية الخلافات، لكن بعد خصومات صغيرة عدة ، تلقى نيكريك رسوم المكتشف البالغة خمسين بالمئة، مع وعد منه بتسليم عائلة جاكوبس بعضا منها، واحتفظ اوريلي بالقسم الأكبر من المبلغ. ولا يزال تلقي عائلة جاكوبس لأي أموال موضع الجدال لغاية الآن، فبحسب مصدر مستقى من نص في كتاب "حمى الماس: تأريخ ألماس جنوب أفريقيا"، شعرت السيدة جاكوبس بالذهول لتسلمها الحصة الثالثة، لكن شهادة موقعة من قبل ارسموس جاكوبس، المفلس والمسن، سنة 1918 تؤكد أنه باستثناء مبلغ 30 باوندا جمعت من قبل ساكني بلدة كمبرلي للمناجم سنة 1906، لم يتلق أي سنت جزاء لما وجده.
وبحسب شيمنسكي، عملت اللقية بشكل هائل على ضمان وجود رواسب معدنية مهمة في المنطقةمن لكن هذا لايعني سهولة اكتشاف الماس المطمور داخل الطمى الغرينية، مثل تلك المزاحة من مصادرها الأساسية بسبب حركة التعرية الطبيعية. وفي غضون أشهر، وضع أوريلي يده على ماسة ثانية، أصغر بكثير من الأولى لكنها أكثر كمالا منها، لكن خلال السنين التالية، حصلت اكتشافات قليلة غير ذات أهمية.
 
انتقالة جذرية
تغيّر كل هذا الحال سنة 1869، عندما اشترى نيكريك حجرا أكبر حجما من صبي رعي مقابل مبلغ يوازي قيمة 500 خروف وعشرة ثيران وحصان واحد. قام نيكريك ببيعها لاحقا وبسهولة بمبلغ 11200 باوند، ليشتريها بالتالي ايرل دودلي بمبلغ 25 ألف باوند. هذه الجوهرة الاستثنائية البالغ وزنها 83,5 قيراطا، والمعروفة باسم نجمة جنوب أفريقيا، لم تجعل نيكريك ثريا فقط، بل غيّرت أيضا مصير أمة بأكملها.
انفجرت حمى البحث عن الألماس، وتم اكتشاف ثلاثة رواسب منفصلة تمثل "مصدرا أساسا" للألماس، عرف لاحقا بألماس كمبرليت، ضمن مدى 70 ميلا عن مكان اكتشاف يوريكا. وتدفق منقبون من جميع أنحاء العالم الى المنطقة، وبحلول سنة 1873، صارت كمبرلي، التي لم يكن لها وجود قبل اكتشاف الألماس، ثاني أكبر مدينة في جنوب أفريقيا. وبعد أقل من عقد من الزمن، صارت المدينة غنية بما يكفي لتكون ثاني مدينة في العالم تنير شوارعها بالمصابيح الكهربائية، بعد مدينة فيلادلفيا الأميركية.
جلب الألماس الأثرياء الى منطقة فقيرة، وأسهموا بتمويل حمى البحث عن الذهب في البلاد خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر، ولا يزال تأثيرهم ملموسا ليومنا هذا، كما انعكس على تقاليد التعدين لدى جنوب أفريقيا، والتي تظل غاية في الأهمية بالنسبة لنمو اقتصاد البلاد. وربما لم تعد كمبرلي هي "المدينة المتألقة نورا"، رغم شعارات السياحة، لكن ’الحفرة الكبيرة‘ في مركزها، تملؤها مياه جوفية حاليا، تبقى مذكرا مثيرا للمشاعر لماضي المدينة البرّاق.لكن اذا ما قدر لتلك المياه أن تتبدد يوما ما، كما يقول شيمنسكي، ستبدأ حمى البحث عن المعادن النفيسة من جديد: "لا يزال هناك المزيد من مليارات الدولارات المطمورة تحت الأرض."
مجلة اوزي الأميركية