محمد غازي الاخرس
مررت قبيل أيام بالمهمشين وانتهيت إلى أنهم حين ينتقلون إلى (المركز) فإنهم لن يحتفظوا ببراءتهم نفسها. لربما ينتابهم تغير جوهري، أخلاقي أساسا، فيكونون أحدّ طبعا وأكثر شراسة، ولعل بعضهم يكون أكثر استعدادا لارتكاب الشرور من أي وقت مضى. هل هم أشرار في الأساس؟ لا جواب بل أجوبة، ولكن قبل هذا، فلأقل إنه مآل يبدو غريبا ولا يلائم الطباع التي نعرفها عنهم، غير أن الغرابة تتلاشى بمجرد تمعن المرء بالأمر سيكولوجيا؛ ما يجري بالأحرى أن المهمش، الشاعر بالاستبعاد، سرعان ما ينتابه التغير بعد حيازته السلطات التي كان يملكها مهمشه السابق. أقول ذلك مفترضا أننا أمام حالة إزاحة شاملة تندحر بها شريحة وتسود أخرى، أي أن الأمر ليس مجرد أفراد ينتقلون من مرتبة إلى مرتبة فيجاورون أصحاب السلطة والمكانة الذين كانوا يحلمون أن يعترفوا بهم . ثمة ما يشبه الزلزال ينهدم به سياق بأكمله ويبنى مكانه سياق آخر، طبقة تخرج من تحت الأرض لتزيح أخرى وتستولي على امتيازاتها. هنا، يمكن تخيل التبدل في مزاج المهمشين النفسي وترسم التفاعلات الكيمياوية الداخلية التي تحتدم في نفوسهم لتقود، من ثم، إلى تفجر العدوانية بحيث نعجب من مآل أصحابنا المساكين الذين كانوا يخشون نسمات الريح إذا مرت بهم. لطالما فوجئنا بالظاهرة ودهشنا منها؛ كيف يتحول المكرود من متلق للعنف الرمزي إلى منتج له؟ ثمة من يقول واصفها هذا المتحول أنّه “تعافى” بعد أن “نبت بأظافره الطحين”، وقد يصل بنا العجب إلى أن نحمد الله على بقائنا في الظل خشية أن تبدلنا “الفلوس” والسلطة والوجاهة المفاجئة فننقل من صف المظلومين إلى صف الظالمين. في بعض الأحيان، نرى أمثال هؤلاء المكاريد “العداونيين” فنهمس متعوذين : فلان الله يعرفه وما سلطه على بشر! وإذ نقول ذلك فإننا نحمد الباري على بقاء شريرنا فترة طويلة ضحية الهامش.
ولكن لماذا يستنهض الشر والعدوانية في نفس المهمش فجأة؟ أقرب احتمال تبناه الباحثون يذهب إلى فكرة تشبّه الضحية بالجلاد، وهي فكرة سبق أن تحدثت عنها في سياق غير هذا. ثمة تفسير آخر جد منطقي يفيد أنه من المنطقي أن يستنفر المهمش طاقاته دفاعا عن حيازته الجديدة. لكأنه يتوقع هجمة من صاحب السلطة القديمة أو ممن ينافسه من الدائرة الطبقية نفسها، ولهذا يتجهز ويبرز أشواكه كالقنفذ. شخصيا، أراني أكثر ميلا لهذه الفرضية المنطقية رغم أن ثمة فرضية ثالثة تفيد أن خصيصة العنف لا تستحدث أبدا ما لم يمن صاحبها يتسم بها بالسليقة. وما يجري في الواقع هو أن الظروف المستجدة تساعد تلك الخصيصة على الظهور، ولنا عودة مع الموضوع فانتظروا.