الموظّفون والاحتراق النّفسي

اسرة ومجتمع 2018/11/30
...

د. خالد الوائلي
كثيراً ما نواجه في حياتنا اليومية وتحديداً عند مراجعتنا دوائر الدولة لإنجاز معاملة ما نماذج معينة من الموظفين ممن يتصفون بالهدوء واللطافة والأسلوب الودي بالتعامل واحترام المراجع والسعي الجاد لإنجاز معاملته، وهذا النوع يكون محموداً مشكوراً، وكثيراً ما يطبع المراجع قبلة على خدّه قبل المغادرة أو يثني عليه حامداً أو يشكره مكرّماً أو يدعو له بالنجاح والسعادة، ويعده بأنّه سيدعو له أكثر في ظهر الغيب، ولكن يوجد هناك نوع آخر من الموظفين صعب المراس شديد الشكيمة صعب التفاهم يلجأ الى الصراخ بوجه المراجع أو يقطب في وجهه أو يترك العمل فجأة أو يسخر من المراجع في حالات عديدة!، فلماذا اختلف السلوك هنا عن هناك؟، ولماذاهذا التباين في المعاملة؟، رغم أنّ الموظفين تحت قانون وتعليمات نافذة واحدة وتحت إدارة واحدة، إنّ تفسيرنا الأولي لسلوك هذا الموظف هو أنّه  عديم الاخلاق او سيئ التربية والتعليم أو أنّه مرتشٍ (يريد فلوس) !! 
ولكنّنا أغفلنا حقيقة أنّ هذا الموظف قد يكون واقع تحت (الاحتراق النفسي) الذي يعني فيما يعنيه وجود عبء زائد في العمل مسلّط عليه والافتقار الى المساندة الاداريّة وسوء النظام الإداري والعزلة عن الأصدقاء، ومدة العمل الطويلة إذ ينظر (بارردو) إلى ظاهرة الفرد المحترق من خلال خدمته الطويلة، فالعامل الأكثر تفاعلا في عمله وأكثر إخلاصا هو الذي يعرف بحماسه والتحكّم برغباته ومرونة تعامله مع ضغوط العمل، ولكن بعد سنوات من الوظيفة قد يفقد حماسه وطموحه، وعدم اهتمامه بالمهنة، وبذلك يتفق باردو مع (سارسون) الذي أوضح أنّ العامل كلّما طال عهده بممارسة مهنته، أصبح أقل تأثيرا وحيوية واستجابة لما يحيط به من مؤثرات، في ما يتعلق بالدور الذي يقوم به، وقد ارجع ذلك إلى أن زيادة الخبرة ربما تؤدي إلى الإحساس بالسأم من تراكم تلك الخبرة وعدم تطويرها وصولاً الى مرحلة الاحتراق المعرفي حيث تبدو كل الاعمال مستهلكة لا متعة فيها ولا جديدا، يحدث الاحتراق متوقفاً على العوامل الذاتية والتي تتمثل في مدى واقعية الفرد في توقعاته وطموحاته، ومدى التزامه المهني الذي يجعله أكثر عرضة للاحتراق النفسي، خاصة حينما يواجه عقبات تحول دون تحقيق أهدافه بأعلى درجة من النجاح
، مثل كثرة عدد التلاميذ في ما يخص المعلمين، أو كثرة اعداد المراجعين بالنسبة للموظفين في الدوائر الخدمية، كدوائر المرور ودوائر التربية والتعليم والمستشفيات (وهذه أخطر ما في الأمر) أو قلة الإمكانيات المتاحة له وأيضاً مستوى الطموح المهني لدى الفرد في إحداث تغيرات اجتماعية في بيئة العمل، قد يجعله أكثر عرضة للاحتراق بسبب العقبات التي تقف أمام تحقيق أهدافه، أو العوامل الاجتماعية حيث يتوقع المجتمع من المربي أن يقوم بدور اكبر في تربية النشء الجديد دون النظر إلى أن هناك مدخلات متعددة تلعب دورها في تكوين شخصية الطفل، فضلاً عن الواقع الوظيفي في ظل المؤسسات البيروقراطية والتي تحول دون تحقيق التوقعات الاجتماعية من جانب 
الفرد.
 وهذا من شأنه توليد ضغط عصبي عليه مما يجعله أكثر عرضة للاحتراق النفسي، وهناك أيضا العوامل الوظيفية وهي الأكثر وزناً في إيجابية أو سلبية الفرد المهني نظراً لما يمثله العمل من دور مهم في حياة الفرد، فالعمل يحقق للفرد حاجات تتراوح بين حاجات نسبية لها أهميتها في تكوين الشخصية السوية مثل التقدير والاستقلالية والنمو واحترام الذات، يمر المحترق نفسياً والذي أصبح لا يطيق المراجع بأربعة مراحل قبل ان يصل الى المرحلة الحرجة الانفجارية التي يطرد بها المراجع أو ينهره أو يسخر 
منه!
 وهذه المراحل هي مرحلة الاستغراق وفيها يكون مستوى الرضا عن العمل مرتفعاً، ولكن إذا حدث عدم تناسق بين ما هو متوقع من العمل وما يحدث في الواقع يبدأ مستوى الرضا في الانخفاض، أمّا المرحلة الثانية فهي مرحلة التبلّد هذه المرحلة تنمو ببطء وينخفض فيها مستوى الرضا عن العمل تدريجياً، وتقل الكفاءة وينخفض مستوى الأداء في العمل، ويشعر الفرد باعتلال صحته البدنيّة وينقل اهتمامه إلى مظاهر أخرى في الحياة كالهوايات والاتصالات الاجتماعية، وذلك لشغل أوقات فراغه في حين تسمّى المرحلة الثالثة مرحلة الانفصال، وفيها يدرك الفرد ما حدث، ويبدأ بالانسحاب النفسي مع اعتلال الصحة البدنية والنفسية يرافقه ارتفاع مستوى الاجهاد النفسي، أما المرحلة الأخيرة فهي المرحلة الحرجة وهي أقصى مرحلة وهي سلسلة الاحتراق النفسي وفيها تتزايد الأعراض البدنية والنفسية والسلوكية، سوءا وخطراً، ويختل تفكير الفرد، نتيجة شكوك الذات ويصل الفرد إلى مرحلة الاجتياح (الانفجار) ويفكّر الفرد في ترك العمل وقد يفكّر في الانتحار، فهنا ينبغي على مدراء الدوائر الرسمية تمييز حالات الاجهاد النفسي والاحتراق النفسي الذي هو أعلى حالات الاجهاد وإقامة برامج خاصة لتبديد التعب النفسي والاجهاد والاحتراق منهم، كإعادة النظر في نظام الإجازات والترقيات وإقامة المحافل الترفيهيّة وغيرها، كما يجب على المراجعين كذلك تقدير ان كان الموظف يعاني من الاحتراق النفسي في مرحلته الأولى المعتدلة او الثانية المتصاعد في السوء او المرحلة الثالثة المرتفعة الاجهاد الموحية للموظف بالانسحاب او المرحلة الرابعة الخطيرة، والتي غالباً ما تؤدي الى الانفجار الذي يكون ضحيته غالباً المراجع 
ومعاملته .