أ.د. باسم الاعسم
يتضح من قراءة قصائد الديوان الشعري الموسوم بـ(قبل أن يقطعوا ثدييكِ) للشاعر عبد الله النائلي، سوداوية المتون التي انطوت عليها أغلبية قصائد الديوان، والمتمحورة حَول انهماك الشاعر في تجسيد كثافة آلامه ولوعاته، وجميع المفردات التي تصب في هذا المضمار، بمعنى، ان الشاعر يعنى باللفظ ومعناه، أكثر من عنايته بمبنى اللفظ وموسيقاه، فجاءت القصائد ذات الشطرين على سياق أفقي، يحاكي هواجس الشاعر الذاتية ورؤياه المأساوية إزاء الأشياء الواقعية، فاقتربت من نمط القصائد التقليدية ذات النظم المألوف، أكثر من مزاحمتها للقصائد المشاكسة، ذات الإزاحات الواضحة والإيقاعات الصادحة، والصور الصادمة، على غرار ما يكتبه الشعراء ذوايا الخبرة، والدربة والحنكة في العصور الشعرية كافة.
دلالة العنوان
من الثوابت التي ألفناها، ان عناوين المجاميع الشعرية، أو القصائد، تكون في العادة منتقاة بروية، وذات شحنات إيجابية، تشد القارئ، وتصعد الطاقة التفاعلية له، في منأى عما هو منفّر، فالعنوان عتبة الدخول إلى عوالم الديوان، أو حيثيات النصوص الشعرية، في حين ان عنوان الديوان الذي هو محور ورقتنا يثير الأسى والنفرة، لما يخفي من صور مؤلمة ودلالات مأساوية، وقد يستسيغ الشاعر ذلك، بفعل تخصصه الطبي، لكن وقعه النفسي على ذات المتلقي يشوبه الإحباط، حتى ان لون كلمة يقطعوا قد لونت بالأحمر.
وعنوانات بعض القصائد، هي الأخرى، محملة بذات الهم ومثقلة بألفاظ الموت والذبح والإرهاب والحرب، من قبيل: ((فوق سرير الحرب، رسالة شاعر ميت، مرحلة الضياع، الموت على شفتي بغداد، الإرهابي، ورقة من خريف العمر، قربان لخنجر الحبيب، العاشقة القاتلة، الموت وقوفاً، وجع(1)، وجع(2))).
بل نقرأ في خمسة أبيات (ص83) قد وردت فيها لفظة الموت أربع مرات، وتكررت مرتين في بيت شعري واحد. وان قول الشاعر هنا يفصح عن هذا المعنى بكل وضوح:
لماذا لا نموت وكلُ عيش
بهذا القبح يغري بالممات.. (ص80)
وفي قصيدة (اعتراف) نقرأ في سطرها الأول ما يأتي:
الموت أصبح خبزنا اليومي
لم ينفد ولم تتعب يد الخباز
ليس الشعر كالصورة الفوتوغرافية الجامدة، وليس وظيفة الشاعر ترديد بدهيات وفواجع الواقع، أو كلام السابلة، بل التقاط الصور بعدسة مخيلته وإظهارها بنحو فني جذاب، يثير ذائقة القارئ، ويحاكي حواسه الإدراكية.
وفي الجانب الآخر، ثمه قصائد تنوعت أغراضها وألفاظها باختلاف مضموناتها، إذ تراوحت بين القصائد العاطفية والقصائد الدينية، وتباينت نوعياً بين العمود والتفعيلة.
ففي قصيدته الميمية نقرأ..
نم بحضني وأنس الهموم حبيبي
فبحضني يطيب طعم المنام
وعلى هذا المنوال نقرأ العديد من القصائد التي مازجت بين التقريرية المباشرة والرمزية المخففة ذات الواقع العاطفي والرومانسي.
مدي شفاهكِ تدمينا ونلثمها
فكم ذبحنا وما تبنا عن القبلِ.
وكنتيجة لاعتداد الشاعر بنفسه ومنجزه، تراه يرسم صورة تنبؤية لمستقبله ومصيره بعد فنائه، إذ يقول:
(ستذكرني إن متُ ألف قصيدة/ وتنثر كف الشعر زهراً على قبري/ أنا طائر الفينيق يبعثني الردى/ وأولد من موتى وابعث من حبري).. (ص83)
أن النص الشعري لا يستقيم بمضمونه حسب، وانما بشكله الذي يحتوي ذلك المضمون، أي في التوظيف الشعري الماهر للمعنى، ومن ثم التعبير عن جلاله، وعندئذ، يبتعد النص عن النسق الآلي، ويقترب كثيراً من الخلق الشعري الابتكاري، فيخلد النص على الصعيد الفني.
ومشكلة بعض نصوص الديوان، افتقارها إلى بواعث الدهشة وتوقفها عند التصوير الفوتوغرافي, في لحظة اقتناص اللقطة، وسيادة عنصر الوصف، من دون اللعب باللغة والألفاظ، بما يجعلها ذات طاقة إيحائية، وتأويلية، فانساقت القصائد وراء قوافيها، وكأن الأهم هو تصوير واقع الحال، وليس البحث عن الجمال، عبر الخيال، فأنحاز الشاعر إلى همومه وبلواه، وكيفية ترجمتها للقارئ، وان كان نفسه الشعري
طويلاً.
في بعض النصوص الحرة، لم نلمس أيما إضافة على صعيد اللغة, فيقترب بعضها من النثر العادي أو كلام السابلة كما في مستهل النص الآتي: (خذني اليكَ... اليكَ خذني يا حبيبي/ كل شيء في الوجود مزيف/ أنت الحقيقي الوحيد).. (ص64).