صرخة خوف أمام شبح الغرق العالمي

ثقافة 2020/02/03
...

قراءات ومتابعات وتحرير : يوسف محسن

عن دار الفارابي، صدرت النسخة العربية من كتاب (غرق الحضارات) للكاتب اللبناني أمين معلوف ترجمة نهلة بيضون بعدما نشرت النسخة الفرنسية في العام  2019 عن دار غراسي، في هذا الكتاب  يحاول معلوف في يفكك الأوضاع الراهنة في العالم الغربي تحديدا ودارسا بواقعية (الملاحظ المتشبث بعقلانيته) فى زمن الجنون، والعنف، والارهاب الاعمى، والمخاطر الجسيمة التى تهدد البشرية، سواء كانت اقتصادية، أم سياسية، أو ثقافية وحضارية. 

   كما يعرج على دراسة الأوضاع في العالم العربي  ليستقرئ التاريخ بوصفه تاريخا  من الظلامية. يشير معلوف إلى الظلمات التي اكتسحت العالم العربي بدءا من لبنان ومصر والعراق وسوريا، ومحاولة اكتشاف  التفسير ألا وهو أن العالم العربي اختار (الطريق الخطأ)، بسبب إخلالات حركة النهضة العربية التي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر. وهو يعتبر أن المجتمعات العربية لم تتمكن من الاستجابة الفعلية لدعوات الإصلاح والتحديث، بل ظلت مشدودة إلى الماضي، رافضة اللحاق بركب الحضارة الغربية.
في الكتاب يضع معلوف ما عاش فيه عن قرب خلال نصف قرن، يراقب العالم ويجوبه؛ ولهذا يتبدئ كمراقب ملتزم ومفكر، مازجا بين الحكايات والتأملات، وساردا أحيانا أحداثا عظمى وجد نفسه وسطها كشاهد، ثم أخذ يتعامل معها كمؤرخ، ويقرر معلوف أننا إذا أمام أزمة أخلاقية واجتماعية وفكرية، قبل أن تكون سياسية، ومن ثم فإن العالم مهدد بدخول منطقة محفوفة بالمخاطر والمجازفات، مع انتشار اللامبالاة، والوهم والعبث وعدم الاستقرار وهي أحوال تتميز بمخاطر جسيمة سواء على المستوى السياسي، والاقتصادي،  والاجتماعي، والثقافي والحضاري. ينضاف إلى كل هذا اختلال مناخي وبيئي.
 
تصادم الحضارات 
 في كتاب (صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي )  اطروحة  تقول: ان صراعات مابعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية واختلافاتها السياسية والإقتصادية، بل سيكون اساسها  اختلافات الثقافات والتي تعد  المحرك الرئيس للنزاعات بين البشر ، اثار هنتغتون جدلا كبيرا في أوساط المنظرين وكانت ردا على أطروحة تلميذه فرانسيس فوكوياما المعنونة (نهاية التاريخ والإنسان الأخير). اي نهاية الحرب الباردة، وانتصار الديمقراطية الليبرالية ، إذ اعدها  هنتغتون من جانبه نظرة قاصرة، ويرى ان  المحدد المركزي في صراع الحضارات، هي القيم بصفة عامة، إذ ان الصراع يتجه أكثر نحو رفض الحضارات للقيم الغربية بدافع الخصوصية والغزو الثقافي. هذه القيم لا تبدو منطقية في عقلية المسلم أو
 الأرثودوكسي. 
فالزيادة في حجم المبادلات لا يعني سيادة الفكر الغربي وتقبل البلدان للأنماط العقلانية الغربية، وتغلغل هذه القيم يعجِل بعودة المكبوت الديني والقومي من جديد. فيطفو على السطح في شكل مواقف معبرة عن القلق من الاحتواء. 
وبالذات من (الخطر الأخضر والأصفر اي العالم الاسلامي والصين )، ومن القوميات الموجودة في البلدان الغربية، هذه القوميات لا تعترف بالذوبان والاندماج في النسيج الاجتماعي الغربي، بل تريد في غالب الأحيان الهيمنة وتحويل الغرب لقيم بديلة. اما  كتابه (من نحن؟) فقد ركز  هنتنغتون  على القيم الغربية وعلى الحضارة الغربية التي أصبحت مهددة من الجماعات المختلفة، تهديد للهوية وللروابط التي تشكلت منها الولايات المتحدة
 الأميركية. 
وتبدو المخاوف من تضاعف المهاجرين وتزايد نسبة الولادات، على العلمانية وكونية الحقوق وفلسفة العمل والاستهلاك.وهي مخاوف غير عقلانية ولا منطقية فالكل يعرف  أن (أميركا) وحدة مركبة ومزيج من الحضارات، الحضارة اللاتينية والأفريقية والأوروبية والإسلامية. على الرغم ان جذورها تضرب في  الثقافة الأنكلوساكسونية والقيم البروتستانتية. ويعتقد أمين معلوف أن المفكر الأميركي هنتنغتون صاحب نظرية (تصادم الحضارات) كان على حق في نقطة معينة، وهي أن الشعوب غالبا ما تستند راهنا إلى الدين في خلافها مع المخالفين لها في العقيدة. إلا أنه لا يتفق معه في العديد من النقاط الأخرى إذ ان العالم الإسلامي مثلا لا يجسد مجموعة متماسكة ومتوحدة مثلما يعتقد هنتنغتون،وإنما هو يشكل بالأحرى ميدانا للمعارك والحروب بين الإخوة الأعداء.
 
تنوع المسارات الفكرية 
ياتي كتاب امين معلوف (غرق الحضارات) ضمن مسارات فكرية ودولية وروائية متعددة فقد صدرت له  كتابات عن الحروب الصليبية، والصراع بين الشرق والغرب، والبحث عن المشترك المنسي في القيم الإنسانية من خلال شخصية عمر الخيام في رواية (سمرقند)، والحديث عن اختلال العالم في موازينه بين الخير والشر والاندفاع نحو الصراع في زمن العولمة، وهذا التيه الذي تشهده الحضارات - كما يقول - لا مفر منه، بدل صيانة هذا العالم من
 الغرق.
 
صرخة حكيم 
في الفصل الأول من الكتاب نجد ان معلوف  يرتعب من رؤية صور التخريب المتعددة والمنتشرة في المجتمعات الإنسانية كافة ، بدءا من الشرق. يتساءل عن تحدي الوحدة ويميز بين (العوامل التي تجمع والعوامل التي تفرق). بين هذه العوامل الأخيرة، القوميات المستندة على الأديان التي تغذي الريبة، المنافسة على المكاسب. 
ان هذه العوامل تسمم بسرية كل المبادلات وتدمر في آخر الأمر كل الاعتبارات وفي الفصل الثاني نجد القلق الذي يتزايد على العالم العربي إذ يقول (أسوأ ما لدى المهزوم، ليست الهزيمة فقط، وإنما تصور تناذر المهزوم الخالد. ينتهي الأمر به ببغض الإنسانية كلها وتدمير ذاته) اما الفصل الثالث فقد كرس عن تأثير العام 1979 (الثورة في إيران ووصول المحافظين في إنجلترا إلى الحكم برئاسة مارغريت تاتشر) وفيه تياران محافظان مختلفان، يرتكن أحدهما على الدين بينما الآخر على الاقتصاد. 
هذان التياران المحافظان يحملان نزعتين بيوريتانية ومسيحانية. من الآن فصاعدا سوف يقومان بتعيين الضوابط الاجتماعية وتغذية (الصعود المتصلب لصور قلقنا الأمني) في الفصل لأخير، يتجلى قلق معلوف من الانحراف الأورويلي(التقدم يتحول إلى اغتراب، والاستبداد المقنع يتقدم تحت صور جذابة عن التقدم ويستغل عقول المخدرين).
 
عتبة الغرق 
في مدخل الكتاب  يقول معلوف  (لسنا في عالم تتصارع فيه الحضارات بل تنهار فيه الحضارات كلها، الأقوى والأضعف، المنتصرون والمهزومون في حالة تراجع، وفي خطر الانهيار) فهو يرى ان الذوبان والانهيار من داخل الحضارات ، يصيب الإنسانية بتحولات كبرى من جراء العنف الذي يستشري في العالم، ومن اختلال في المستوى الاجتماعي والسياسي. والحضارات  تقترب من جبل الجليد والناس فوقها طبقات، والغرق يمس الكل ولا طوق للنجاة من جراء القيادة البليدة  للعالم، قوارب الموت وفرار الناس في بؤر عدة من الحروب وضيق العيش، واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، وبداية تفكك أوروبا و  عودة الشعبوية والأحزاب القومية الراديكالية المناهضة للاخر، وتصاعد الحركات الإسلامية المتشددة في الشرق. والتغييرات المناخية وتدهور الديمقراطية في العالم بصعود دونالد ترامب في أميركا، وأزمة اللاجئين والحروب المتتالية في الشرق. هناك عودة للهويات القاتلة التي أسهمت في اندلاع الحرب وتوسع نطاقها بعد ان  تتغذى على الدين والماضي والذكريات المريرة ، فضلا عن في عودة المكبوت الأخلاقي والقيمي
 للواجهة، 
 
من موطني انتشر 
الظلام إلى العالم
يروي معلوف كيف كان شاهدا بالصدفة على حادثة بوسطة عين الرمانة، التي كانت بداية للحرب اللبنانية في 13 نيسان 1975، معتبرا (أن الحرب انتهت في لبنان، ولكن العطب الذي أدخلته على النموذج اللبناني لم ينته) ويعد معلوف أن (اليأس العربي بدأ العام 1967 ويرى أن العرب لم يتخطوا لحظة الهزيمة وإسرائيل لم تتمكن من الإفلات من فخ الانتصار لأنها اعتبرت أنها غير مضطرة لتقديم
 تنازلات.
يقول  أمين معلوف: (الظلمات بدأت تنتشر انطلاقاً من أرضي الأم واندثار الشرق في التعددية والهزات المتتالية التي ألمت بالعالم العربي الإسلامي وانتشرت انعكاساتها اللاحقة شيئا فشيئا في كل أرجاء العالم)  ويبين : منذ عدة سنوات، تولدت لدي الرغبة في النظر بعين ناقدة إلى أحداث معينة وتفكيك شفراتها. كتابي مبني في جزء منه على تجارب شخصية، وعلى طفولتي في لبنان،  إذ عشت في مشكلات المنطقة. 
كان لدي انطباع أن ما حدث في الدول العربية أسهم بشكل ما في خلق شيء غير صحي في بقية العالم وأثناء الكتابة كنت أتمهل وأسأل نفسي ان كنت أريد إعمام تجاربي الشخصية. ولكن يبدو أن هناك عناصر في التطور الراهن للعالم مصدرها الدول العربية. في العالم العربي تمنح أموال النفط (البترودولار) بعض المجتمعات التقليدية نفوذا سلبته من المجتمعات الأخرى. وبالتحديد السعودية، التي ازداد نفوذها، بينما مصر، التي لا تمتلك نفطا ولكنها تلعب دوراً ثقافيا وسياسياً مهما.
 شهدت تراجعا لدورها. فضلا عن  هناك عدم الاستقرار الذي جلبه البترودولار إلى الكثير من دول المنطقة، مثل العراق، أثر على العالم بأسره. وشكلت أزمة النفط في سبعينيات القرن الماضي عاملا حاسما في تطور عقلية جديدة في الغرب، وظهور سياسة اقتصادية مختلفة هي التاتشرية. فضلا عن ظهور الإسلاموية المتطرفة، التي انتشرت من دول النفط، تسببت في توتر وانقسامات في المجتمعات العربية وصراع مع الغرب .