انفتاح البصيرة

الصفحة الاخيرة 2018/12/01
...

جواد علي كسار
 
في حياة كلّ واحد منا لحظة منعطف تتغيّر فيها نظرتنا إلى الأشياء، وتبقى تلك اللحظة راكزة في نفوسنا وعقولنا وذاكرتنا. واحدة من تلك اللحظات أعادتني إلى مرحلة المتوسطة، حيث انفتحت بصيرتي على الأشياء والحياة وكلّ ما حولي، وبدأ وعييّ بالتكوّن. في هذه المرحلة وعيتُ معنى المكتبة، وأن هناك شيئاً اسمه صحف يومية وأسبوعية، ومجلات أسبوعية وشهرية، وفكر إسلامي تختص بكتابته أقلام تنتمي إلى الاتجاه الإسلامي، وفكر شيوعي وآخر قومي. في تلك المرحلة وعيتُ وجود كتّاب ومؤلفين لكلّ بلد، ونخب تُنتج فكره وثقافته.لقد كان من بين العناصر التي أسهمت في تنشيط علاقتي مع الكتاب وتوثيق الآصرة معه، هي المسابقة السنوية للمكتبات المدرسية. ففي تلك السنوات كانت تجري في النجف الأشرف مسابقة بين مكتبات المدارس، يتنافس فيها الطلبة من مدارس مختلفة على مقدار الكتب التي قرؤوها خلال عام كامل، مضافاً إلى الكشف عن مقدار استيعابهم لما قرؤوه، وذلك من خلال اجتماع ممثلي المدارس في قاعة تجري فيها المسابقة، ويتمّ اختبار الطلبة. وقد كان من حسن حظّي أني حضرتُ واحدة من هذه المسابقات بوصفي أحد الثلاثة أو الأربعة الذين مثّلوا متوسطة الخورنق. وأذكر أن ذلك تمّ وأنا في الصف الثاني المتوسط.
للأمانة كان من هو أبرع مني من ممثلي المدرسة، حيث استطاع ذلك الطالب (لم أعد أذكر اسمه) أن يسجّل لنفسه حضوراً متميّزاً، وقد أجاب على الأسئلة بشجاعة كبيرة، من دون تلكؤ ولا تهيّب. وقد لمستُ تفوقه عليّ في حينها، ما زودني بدافع مضاف للانكباب على الكتاب أكثر، ورفع سقف قراءاتي والحرص على تنويعها أفقياً.مع الأسف لا أعرف مصير زميلي الطالب المثقف الشجاع ذاك، وفيما إذا كان قد استمرّ في شوطه الثقافي، أم التهمته واحدة من محن بلدنا وغصصه وما أكثرها!هكذا كان لمسابقة المكتبات أثرها في تكوين ثقافتي وفتح المزيد من تطلعاتي المعرفية، طمعاً في أن أكون الممثل الذي لا يُنافس لمدرستي؛ مدرسة الخورنق. من الموجع ـ صار هذا الشعور موجعاً بعد ذلك ـ أن استحضر الآن، أنني قد عرفتُ قصة الكتب الممنوعة منذ ذلك الوقت. لقد قادتني علاقتي بالكتاب إلى مراجعة مكتبة المدرسة والإفادة من كتبها، وفي مرة من المرّات طلب زميلي المتميّز بثقافته كتاباً معيناً، لكن بدلاً من أن تُلبى رغبته أثار طلبه ضجّة، لمسناها عن قرب نحن الطلبة المهتمون بالقراءة والكتاب، إذ رفض المدرّس المشرف على المكتبة أن يعيره الكتاب، وقد ذكر علة رفضه حين قال لنا صراحة، أن الكتاب ممنوع بموجب كتاب رسمي من وزارة التربية أو من غيرها، لا أعرف! 
الواقعة تلك أعادتني إلى واقعنا الحاضر، حيث أصبح كلّ شيءٍ متاحاً دون خوف من رقابة أو خشية من ممنوعات، لكن إلى أي مدى صرنا نستفيد من هذا الانفتاح؟!