ثنائيّات عراقيّة في صداقة المتضادّين خلّدها التاريخ

ثقافة 2020/02/08
...

حسين محمد عجيل
 
كانت الصلة المتوترة باستمرار بين المثقف العربيّ والسلطة- في أوسع تعريف لتجلياتها على الواقع- واحدة من الأسباب الكبيرة التي أدت إلى تخريب الصلة بين المثقفين أنفسهم؛ ذلك أنّ مفردات التسلط والقمع ومحاولات الاستلحاق والتغييب ومصادرة الأفكار وانتزاع الأدوار، وهي المفردات الأساسيّة في معجم السلطة غير المقيّدة بأنظمة ودساتير وقوانين حاكمة كما كانت من قبل، أو غير الخاضعة لضمير مجتمع حيّ كما هي راهناً، انتقلت بفعل التماسّ الدائم بين المثقف والسلطة في قطبيه الإيجابيّ والسلبيّ إلى وعي نسبة من المثقفين، وبعملية من إعادة تشكيل الوعي
 تسلّلت بعض هذه المفردات كالوباء القاتل إلى علاقاتهم البينيّة، وأخذت تتمظهر في سلوك بعضهم بأشكال مختلفة متفاوتة في العمق والتأثير نتيجة لاختلافات سايكولوجيّة بين هذا المثقّف وذاك، أو لقوّة التحصين الفكريّ للمثقّف من عدمها. إنّ الصورة القاتمة والمأساويّة في أبعادها العامّة التي تنتج بالضرورة عن هذا التشخيص، لا يتأتّى لنا أن نصمَ بها عصور الثقافة العربيّة كلّها وبيئاتها المختلفة، فضلاً عن أنّها غير منطبقة على عدد غير قليل من ممثّلي هذه الثقافة، ويمكن القول بثقة أنّ ثمّة الكثير ممّن كان يحاول تضييق مصطلحات معجم السلطة القامعة هذه ومفاهيمها، ويقاوم آليات نقلها إلى وعي المثقّفين، ويبشّر- عبر الممارسة السلوكيّة الواعية-  بمصطلحات ومفاهيم وقيم مغايرة تماما لها، تدعو إلى الاعتراف بالآخر في بعده الإنسانيّ، والتواصل الإيجابيّ معه، واحترام خصوصيّاته الفكريّة والعقائديّة والسياسيّة، في تجاوز واضح لاختلاف اللون والعرق والميول والطوائف والمذاهب.
 
العراق موئلاً للتسامح والتعايش
لقد تجسّدت مثل هذه المفاهيم والأفكار كواقعة اجتماعيّة اتسمت بالديمومة في وعي نخبة من رموز الثقافة العربيّة عبر العصور المتعاقبة، فكانت المعادل الموضوعيّ لقطيعة فرضتها السلطة، وقد أثبتت المفاهيم التي تبنّاها هؤلاء نجاعتها في إبراء الضمير الجمعيّ لغالبيّة المثقّفين من وصمة نفي الآخر ومصادرة كيانه الإنسانيّ وحريّة خياراته، فقد تسامى هؤلاء فوق التقاطع والاختلاف، الذي ظلّ محصوراً عندهم في بعده الفكريّ، ولم تمتدّ سجالاتهم الفكريّة لتشكّل قطيعةً ثقافيّةً أو اجتماعيّةً أو إنسانيّةً، فكانوا الأنموذج الملهِم لغيرهم، وظلّ صداهم يتردّد بقوّة في عصور تالية، لا بوصفهم الحالة الوحيدة وغير المتكرّرة، ولكنّ لريادتهم وأوّليتهم وفرادة تجربتهم، والريادة والأوليّة وفرادة التجربة خصالٌ احتفت بها ثقافتنا العربيّة قديماً وحديثاً، وأولتها بالغ اهتمامها، وجعلت منها مضرباً للأمثال، حتى كادت أن تُسدل الستارَ على أشباهها ونظائرها، فغابت أو غيّبت.  ولم يكن غريباً أن تكون أرض العراق بالذّات هي الموئل الجغرافيّ والمجال الحيويّ لفاعليّة هذا التوجّه الثقافيّ الإنسانيّ المضادّ لميل السلطة الغريزيّ نحو المصادرة والإلغاء، لما شهده هذا البلد العريق من تراكم حضاريّ استثنائيّ في العصور القديمة والوسيطة والحديثة، تنافست على خلقه وديمومته أمّهات مدنه النهريّة الكبرى، التي ساعد في تكوينها ورقيّها، تعدّدُ بيئاته وتنوّع سكّانه وسهولة تواصل سوادهم الأعظم في سهله الخصيب، وما يتطلّبه ازدهار مثل هذه البيئة النهريّة من تعاونٍ وتآزرٍ وتنظيمٍ دقيقٍ، واستثمارٍ أمثل لطاقات الأفراد واستنفارٍ لقدراتهم، ما جعل إنشاء تجمّعات بشريّة في قرى ثمّ في مدن، ومن ثمّ الارتقاء لإنشاء دولة راعية وحامية، وتنظيم العلاقة بين مواطنيها وسنّ القوانين والتشريعات، من ألزم ضرورات الحياة، واقتضى ذلك تمازج الأفراد واختلاطهم وتفاعل عقولهم، وسرعة انتقال أفكارهم وخبراتهم بينهم وتلاقحها، خصوصاً بعد اختراعهم الكتابة، ما أدّى إلى تطوّر حضاريّ سريع في هذه الأرض شكّل ظاهرة في تاريخ الإنسانيّة، ولذلك كان العراق منذ فجر تاريخه القديم هو البيئة الخصبة التي ظهرت فيها الكتابة وازدهرت الشرائع والعلوم والآداب والفنون، ومن ثمّ بزغت فيها الأفكار التنويريّة طوال عصور التاريخ العربيّ والإسلاميّ ونمت، وأثمرت عن ظهور أعظم المدارس الفكريّة والفلسفيّة ذات الطابع العقليّ والجدليّ المغاير للسائد والمتعارف عليه، وتجاورت فيها التوجّهات الفكريّة والسياسيّة والفقهيّة المتعارضة، وكان من نتيجة هذا التلاقح الخلّاق أن أصبح العراقُ المرجلَ الفوّارَ بالإبداع الاستثنائيّ حتّى اليوم.
 
مأثرة الشاعرين:
 الكُمَيْت والطِّرِمّاح
ولعل تجربة صداقة الشاعرين المتضادّين في كلّ شؤونهما: الكُمَيْت بن زيد الأسديّ والطِّرِمّاح بن حكيم الطائيّ، وهما من مدينة الكوفة في عصرها الأمويّ، تمثّل الأنموذج الأبكر في الثقافة العربيّة، فقد كان المثل يضرب بصداقتهما على الرغم من تنافرهما الشديد فيما يمثّلان من تعارضات سياسيّة وميول مذهبيّة وعقائديّة وتنافر مناطقيّ وانحدار قبليّ، لكنّ ما فرّقته هذه الميول والتوجّهات والانتماءات المتعارضة جمعته الثقافة والأدب في صداقة أثارت إعجاب محيطهم وتفاعله وإلهامه، فكانا أشدّ ما يكونان متخاصمين وهما ينافحان عن المبادئ التي يؤمنان بها، لكنّهما ظلّا صديقين حميمين استطاعا مدّ أرضيّة صداقتهما لتتسع وتحتوي، على المستوى الاجتماعيّ في الأقلّ، كلَّ عناصر التباين والاختلاف. 
ظهرت هذه المأثرةُ في الكوفة من أرض العراق، المدينة التي كانت مهد العلوم والفنون والآداب العربيّة في قرون الإسلام الأولى، وتنبّه لها ووثّقها في كتاب ذائع الصيت كاتبٌ بصريٌّ شهير، هو أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، الأديب الموسوعيّ والمفكّر الجليل المكانة في أوساط نخبة مثقّفي عصره والعصور التالية، والقريب في الوقت نفسه من وجدان الشعب والمعبّر عن هموم طبقاته كلّها، وهو أيضاً من كبار منظّري مدرسة الاعتزال ذات التوجّه العقليّ في تاريخ الإسلام، التي ظهرت في مدينة البصرة ذات الإطلالة البحريّة، والمشهود بانفتاحها على مختلف الثقافات، والتي نافست الكوفةَ بضراوة على مكانتها العلميّة والفكريّة قروناً طويلة، وشكّلت المدينتان معاً الرافدَ العظيم الذي خلق مجدَ بغداد المؤثّل في منتصف القرن الثاني للهجرة، ومدّها بعناصر الديمومة والإشعاع الحضاريّ لتكون عاصمة الدنيا طوال القرون الوسطى. قال الجاحظ في كتابه “البيان والتبيين” عن حال هذين الشاعرين، وما تركاه من أثر في محيطهما الثقافيّ وفي الرأي العامّ كلّه: “ولم يرَ الناسُ أعجب حالاً من الكُمَيْت والطِّرِمّاح، وكان الكُمَيْتُ عدنانيّاً عصبيّاً، وكان الطِّرِمّاحُ قحطانيّاً عصبيّاً، وكان الكُمَيْتُ شيعيّاً من الغالية، وكان الطِّرِمّاحُ خارجيّاً من الصَفَريّة، وكان الكُمَيْتُ يتعصّب لأهل الكوفة وكان الطِّرِمّاحُ [يتعصّب] لأهل الشام، وبينهما مع ذلك من الخاصّة [لعلها “المخالصة”، كما ورد في كتاب الأديب البغداديّ ابن قتيبة الدينوريّ “الشعر والشعراء”] والمخالطة ما لم يكن بين نفْسَيْنِ قطّ، ثمّ لم يجرِ بينهما صَرْمٌ ولا جَفْوةٌ ولا إعراضٌ ولا شيءٌ ممّا تدعو هذه الخصال إليه”. ولا شكّ في أنّ هذا التفاعل اليوميّ بينهما هذّب النافرَ من سلوكهما والمتطرِّف من آرائهما والمتشدِّد من أفكارهما، لتضيق مساحة مصادرة الآخر في عقولهما، وتتسع في المقابل مساحة القبول به عبر التحاور والمكاشفة واحترام الرأي الآخر تحت مظلّة من المحبّة الخالصة.
 
أبو تمّام والأصفهانيّ
 يحتفيان بالظاهرة 
لم يكن الجاحظ منفرداً في تسجيل إعجابه بهذه الثنائيّة والاحتفاء بمغزاها ودلالاتها، فقد استفاض بذكرها الكتّابُ والأدباءُ في مؤلّفاتهم، وأبرزهم أديبان شهيران عاشا في العراق، أوّلهما الشاعر المجدّد أبو تمّام، حبيب بن أوس الطائيّ، الذي عاش أهمّ سنيّ عمره القصير في العاصمتين العبّاسيّتين بغداد وسرّ مَن رأى، ثمّ قضى سنواته الأربع الأخيرة بالموصل ودفن فيها، وذلك في كتابه المرجعيّ «ديوان الحماسة”، وثانيهما أبو الفرج الأصفهانيّ الذي نشأ وتعلّم وعاش معظم عمره ببغداد ودفن فيها، وذلك في كتابه الموسوعيّ الجليل “الأغاني”.قال أبو الفرج: «كان الكُميت بن زيد صديقاً للطِّرمّاح لا يكادان يفترقان في حالٍ من أحوالهما، فقيل للكُمَيت: لا شيء أعجبُ من صفاء ما بينكَ وبين الطِّرِمّاح على تباعد ما يجمعكما في النسب والمذهب والبلد، هو شآميّ قحطانيّ شاريّ وأنت كوفيّ نِزاريّ شيعيّ، فكيف اتفقتما مع تباين المذهب وشدّة العصبيّة؟ قال: اتفقنا على بغض العامّة”، وجوابه الطريف يندرج في ما كان يُعرف بمصطلح “حُسْن التَخَلُّص”، وروى الأصفهانيُّ بعد قوله هذا، حكايةً تدلّ على ما بينهما من تصافٍ حين قاسمَ الكُميتُ صديقَه الطِّرِمّاحَ جائزةً ماليّةً اختصّه بها أميرٌ للأمويّين على جرجان، هو مخلّد بن يزيد المهلبيّ، كان قد حرمَ الطِّرِمّاحَ من جائزة مماثلة. 
واحتفى أبو تمّام في كتابه “ديوان الحماسة” بهذه الصلة العميقة الجامعة بين الشاعرين، فقال: “يالله العجب! شيعيٌّ وخارجيٌّ يتّفقان ويتصادقان!». ثمّ أردف بذكر مصداقٍ لعمق هذه الصداقة بينهما، ناقلاً هذه الرواية: “أُنْشِدَ الكُمَيْتُ ذات يوم قولَ الطِّرِمّاح:
إذا قُبِضتْ نَفْسُ الطِّرِمّاحِ أخْلَقَتْ
       عُرى المجدِ واسترخى عِنانُ القصائدِ
فقال الكُميتُ: إي والله! وعِنانُ الخَطابة والرواية والفصاحة والشجاعة”.
 
ثنائيّة هِشام بن الحَكَم 
وعبد الله بن يزيد
لم تكن هذه الحالة يتيمةً في بابها، كما أسلفت، وإنّما كان همّ الجاحظ منصبّاً في تثبيت الريادة والأوّليّة وفرادة التجربة واتساع المختلف بين المتضادّين، فقد قال مستأنِفاً كلامه عن ثنائية الكُمَيْت والطِّرِمّاح، ومردفاً بذكر تجربة أخرى: “لم يرَ الناسُ مثلهما إلّا ما ذكروا من حال عبد الله بن زيد الإباضيّ وهِشام بن الحَكَم الرافضيّ، فإنّهما صارا إلى المشاركة بعد الخلطة والصحبة والمصاحبة.. إلّا أنّهما فُضِّلا على سائر المتضادّين بما صارا إليه من الشركة في جميع تجارتهما». هذه الثنائيّة الأنموذج في التواصل الإنسانيّ بين مفكّرين متضادّين، التي شهدتها مدينة الكوفة أيضاً، وبلغت مستوى الشراكة الدائمة في العمل، سجّلها بتوسّع واستفاضة المؤرّخُ والجغرافيُّ البغداديُّ الشهير أبو الحسن علي بن الحسين المسعوديّ في كتابه التاريخيّ الموسوعيّ “مروج الذهب ومعادن الجوهر”، فقال: “وكان عبد الله بن يزيد الإباضيّ بالكوفة يختلف إليه أصحابُه يأخذون منه، وكان خرّازاً شريكاً لهِشام بن الحَكَم، وكان هِشامُ مقدَّماً في القول بالجسم والقول بالإمامة على مذهب القطيعيّة، يختلف إليه أصحابُه من الرافضة يأخذون منه، وكلاهما في حانوتٍ واحد على ما ذكرنا من التَشَرّي والرفْض، ولم يجرِ بينهما مُسَابّةٌ، ولا خروجٌ عمّا يوجبه العلمُ وقضيّةُ العقلِ وموجبُ الشرعِ وأحكامُ النظَرِ والسِيَر”.  والمسعوديّ البغداديّ، هو كالجاحظ البصريّ، ينتمي أيضاً إلى مدرسة الاعتزال البصريّة المنشأ والتبلور، وهكذا اشتركت الكوفة والبصرة وبغداد في إبراز مأثرة حضاريّة أخرى، بوصف هذه المدن ثالوثَ الرقيّ الفكريّ في أرض السواد، وكبرى أمّهات مدن العالم الإسلاميّ في أوان ازدهار الحضارة العربيّة الإسلاميّة.
 
ظاهرة الشريف الرضيّ والصابي
وإذا كان ما يجمع بين المتضادّين في الثنائيّتين السالفتين أنّهم مسلمون جميعاً، وإن اختلفوا في انتماءاتهم المذهبيّة والسياسيّة والفكريّة والقَبليّة والمناطقيّة، فإنّ ما يفرّق بين حالة أخرى من العصر العبّاسيّ، هذه المرة، هو الدين، فلقد مثّلت أواصر الصداقة العميقة التي ربطت بين الشريف الرضيّ، أبي الحسن محّمد بن الحسين بن موسى، نقيب الطالبيّين في عصره، وأشعر شعرائهم قاطبةً، وجامع خُطَب جدّه الإمام علي بن أبي طالب في كتاب “نهج البلاغة”، وبين الأديب المترسّل والشاعر الوزير أبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي، الذي يعدّ واحداً من أكثر أبناء الطائفة الصابئيّة في العراق بروزاً في تاريخ الثقافة العربيّة؛ أنموذجاً مشرقاً يؤكد التسامي الحقيقيّ لهاتين الشخصيّتين الجليلتين في الفكر والسلوك معاً. قال ياقوت الحمويّ البغداديّ في كتابه الموسوعيّ “معجم الأدباء” وهو يترجِم للصابي: «كان بينه وبين الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عبّاد مراسلاتٌ، ومواصلاتٌ ومتاحفاتٌ، وكذلك بينه وبين الرضيّ أبي الحسن محمّد بن الحسين الموسويّ مودّةٌ ومكاتباتٌ، مع اختلاف المِلل، وتباين النِحَل، وإنّما كان يَنْظِمهم سِلْكُ الأدب، مع تبدّد الدين والنَسَب”، وبمثل توصيف ياقوت هذا، حفلت كتب التاريخ والتراجم والأدب، والمراجع العربيّة القديمة منها والحديثة، بأخبار هذه الصداقة الاستثنائيّة في عمقها، واتساع أرضيّة التسامح والتعايش الإيجابيّ بين طرفيها، اللذين قاما بتوثيقها عبر تذويب الكثير من مظاهر السلوك الإنسانيّ لهما، فقد كان الصابي، مثلاً، يصوم رمضان مراعاةً لشعور صديقه، وهو سلوك ينطوي على أجلّ معاني النبل واحترام طقوس الآخر الدينيّة، وتجسيد هذا الاحترام بالسلوك حدّ الأداء الحرّ لشعيرة من دين آخر.
 
مراسلات أدبيّة وإخاء استثنائيّ 
وتبادل الأديبان الكبيران رسائل تكتنز بالمودّة والإخاء، جمعها الصابي في كتاب بعنوان “مراسلات الشريف الرضيّ أبي الحسن محمّد بن الحسين الموسويّ”، ذكَرَه الورّاقُ البغداديُّ الأشهرُ ابنُ النديم في كتابه “الفهرست”، وحقّقها ونشرها الباحث محمّد يوسف نجم في كتاب بعنوان “رسائل الصابي والشريف الرضيّ” صدر سنة 1961، وهي تقدّم صورةً عن شواغل الرجلين واهتماماتهما الثقافيّة، فضلاً عن مداولات ومكاتبات اقتضاها منصباهما الرفيعان في الدولة، وتكشف عبارات الرسائل والتوصيفات المتبادلة بين الرجلين عن مدى المحبّة والتقدير والانسجام الروحيّ بينهما. 
وعلى الرغم من أنّ الصابي كان في سِني شيخوخته والرضيّ في مقتبل عمره، إلّا أنّ ذلك لم يمنعه من أن يطلب إليه النظرَ في مقطوعاته الشعريّة والحكمَ عليها، وقال في كتابه موثّقاً هذا الطلب: «أنفذتُ ذلك إلى حضرة سيّدنا الشريف النقيب أبي الحسن محمّد بن الحسين بن موسى الموسويّ، وسألتُه أن يحكم بين المقطوعة الأولى، وبين أبياتي، ويذكر ما يختاره منها، فأجاب أدام الله تأييده بما هذه نسخته: وقفتُ، أطال اللهُ بقاء مولاي ورئيسي الشيخِ وأدام عزّه وتأييده، وكفايته وسعادته ونعمته، على جميع الأبيات التي تضمّنتها رقعته، وأقرنتُ بها مخاطبته، وأمعنتُ النظر فيها والتقرّي لها، وإعمال الخاطر في البحث عن معانيها، والمقابلة بين هَواديها وتَواليها، فرأيتُ كلَّ مقطوعة من مقاطيعه الخمس، التي جاش خاطرُه بها، وأجرى رونقَ طَبْعِهِ فيها، تزيد على البيتين اللذين حَذا فيما قاله حَذْوهما..»، ورسالة الرضيّ الجوابيّة هذه جاءت مطوّلةً، وعُدّت بما احتوته من آراء وموازنات وأحكام، من بين الوثائق النقديّة المهمّة في القرن الرابع للهجرة.
وفي سِني سجنه ببغداد، على الأرجح، كتب الصابي يوماً أبياتاً وجّهها إلى الشريف الرضيّ، توقّع فيها بلوغه أعلى مراتب المجد، قائلاً:
أبا حسنٍ ليَ فــــــــــــــــــي الرجالِ فِراسةٌ
       تعوّدتُ منـــــــــــــــــــــــها أن تقولَ فتصدُقـــا
وقـــــــــــــــــــــــــد خبّرتني عنك أنّك ماجــدٌ
       سترقى مـــــــــــــــــن العليــــــاءِ أبعدَ مُرتقى
فوفّيتك التّعظيم قبـــــــــــــــــــــــــــــــــــل أوانِـهِ
      وقلتُ: أطال اللّهُ للسيّـــــــــــــــــــــــــــــــــدِ البقـــا
وختمها ببيت مؤثّر يُظهر المدى الاستثنائيّ الذي بلغه إخاؤهما ومودّتهما، بحيث يوصيه فيه بأن يكون الراعي الموثوق لأولاده وأهل بيته إذا مات.
وكنْ ليَ في الأولادِ والأهلِ حافظاً       إذا ما اطمأنَّ الجنبُ في موضعِ اللِّقا
فردّ عليه الرضيّ بقصيدة مكتنزة بمشاعر الودّ والوفاء، منها هذان البيتان الدّالان على طهارة النفس وشرف الموقف ونصاعة الضمير، حتّى أنّه وعده بمشاطرته ما يملك، بل وجعل من نفسه له كأحد جوارح الطير التي تجلب للصيّاد فرائسَ اصطادتها من غير أن تستأثر بها:
فإن راشَنـــــــــي دهري أكنْ لكَ بازيــــاً 
     يسرُّك محصوراً ويُرضيـــــــــــــــكَ مُطْلَقـــا
أشاطرُكَ العزَّ الذي أستفيـــــــــــــــــــــــدُه 
      بصفقةِ راضٍ إنْ غنيــــــــــــــــــــــــتَ وأملقـــا
فتذهبُ بالشطرِ الذي كلُّهُ غِنــــــــــىً 
     وأذهبُ بالشطرِ الذي كلُّــــــــــــــــــــــــهُ شَقــــا
 
قدّره المتنبي ورثاه الشريف الرضيّ
كانت لأبي إسحاق الصابي مكانةٌ أدبيّة سامقة لدى مثقّفي عصره والعصور التالية، وحظي قبل محنته التي أودت بحياته وأثنائها، بتقدير نخبة المجتمع وكبار رجال الدولة في بغداد، حتّى أنّ أبا الطيّب المتنبّي الكوفيّ المولد، وهو الشاعر الأشهر في عصور الأدب العربيّ كلّها، قال له حين قدِمَ بغداد، بحسب ما نقله ياقوت الحمويّ البغداديّ عن ولده أبي علي المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابي: “والله ما رأيتُ بالعراق مَن يستحقّ المدحَ غيرَك، ولا أوجبَ عليّ في هذه البلاد أحدٌ من الحقّ ما أوجبتَ». 
وحين توفي الصابي سنة 384هـ مغضوباً عليه من السلطة البويهيّة التي سخّرته في تلفيقِ تاريخٍ لها، بعد سجنه نحو أربع سنين ومصادرة أمواله وتهديده بميتةٍ بشعةٍ تحت أرجل الفِيَلة، جاءت وقفةُ صديقه الشريف الرضيّ بالضدّ من موقف السلطة المنتهك لحريّة الإنسان، وشكّلت المعادلَ الموضوعيَّ لها، كما هو الجدير بمثقّف والمتوقّع منه، فقد رثاه بحرارة، بقصيدة مؤلّفة من 82 بيتاً تعدّ من عيون شعره، باكياً فيه الصديق والإنسان والمثقّف، حتّى لامه في ذلك بعضُ المتعصّبين، فقال تخلّصاً من عتمة عقولهم وقلوبهم: «إنّما رثيتُ فضلَه».
يقول الرضيّ في مطلعها مصدوماً متوجّعاً من هول الفقدان:  
أعَلِمْتَ مَنْ حَمَلُوا عَلــــــــــــى الأعْوَادِ
     أرَأيْتَ كَيْفَ خَبَا ضِياءُ النادِي؟
ويُظهر فيها تأسّفاً بالغاً على رحيل صديقه، حتّى تمنّى أن يشاطره مصيره كما كان وعده بمشاطرته ما قد يملك، بقوله:
قد كنتُ أهوى أن أشاطِرَك الرَدى
      لكنْ أرادَ اللهُ غيــــــــــــــــــــــــرَ مُرادي
وَلَقَـــــــــــــــد كَبَا طرفُ الرُقَادِ بناظِري
      أسَفاً عليـــــــــــــــــــكَ فلا لَعاً لرُقادِي
 إنّ الدموعَ عليكَ غيـــــــــــــــــــرُ بخيلةٍ  
والقَلْبَ بالسُلْوانِ غيـــــــــــــــــــرُ جَوَادِ
وفي البيت التالي يضعه في مرتبة الأقرب إليه مودّةً، وكأنّه من صميم أسرته:
إنْ لمْ تكُنْ مِنْ أُسرَتي وَعَشِيرَتي 
  فلأنــــــــتَ أعْلَقَهُم يَــــــــــــــداً بودادي
 
صداقةٌ مُلهمةٌ خلّدتها القرون
وبعد بضع سنين من وفاة الصابي، اجتازَ الرضيُّ بقبره في جماعةٍ من أصحابه، فوقف راثياً صديقَه وهذا الوجودَ الإنسانيَّ المحكومَ بالفناء، وكتب قصيدةً مؤثّرةً تكشف عن نبل وفائه ورقّة مشاعره، وتبدو بعض أبياتها الحزينة وكأنّه قد سمع للتوّ خبر رحيله.
ويقول في مطلعها، مستعيداً مطلعَ مرثيّته الداليّة الاستفهاميّ:
أيَعْلَمُ قَبـــــْرٌ بالجُنَيْنـــــــــــةِ أنّـنــــــــــــــــــــــــــــــــــا
         أقمنا به ننعى الندى والمَعاليــــــــا
نَزلنا إليهِ عـــــــــــــــــــــــــــنْ ظُهورِ جِيادِنا
         نكفكفُ بالأيدي الدموعَ الجواريا
أقولُ لركبٍ رائحيـــــــــــــــــــــــــــــــنَ تعرّجوا 
        أُرِيكُمْ بِهِ فَرْعاً من المَجْدِ ذاويـــــا
ويخاطب الرضيُّ قبرَ صاحبه بهذين البيتين، وقد تجلّت فيهما مقدرته التصويريّة والبيانيّة البارعة:
ألا أيّــــــــــــــها القَبــــرُ الذي ضَمّ لَحْدَهُ 
        قَضِيباً عَلى هَامِ النّوائبِ ماضيا
هَلِ ابنُ هِلالٍ مُنــذُ أوْدَى كعَهدِنـــــا 
        هِلالاً على ضوءِ المطالعِ باقيــا 
ويشيد بمآثر الصابي وفضله حيّاً، ورزيّة البلاد به ميتاً، بقوله:
ملأتَ بمحيّاك البلادَ فضائــــــــــــــــــلاً   
      ويَمْلأُ مَثْوَاكَ البِلادَ مَنَاعِيـــــــــــــــــــا
ويبدو الشاعر في هذين البيتين أشبه بالحكيم المستسلم لقدر الإنسان المحتوم:
رَثَيتُكَ كَيْ أسْلُوكَ فازْدَدتُ لَوْعـــــــــــــة ً 
     لأنّ المَرَاثي لا تَسُدّ المَرَازِيــــــــــــــــا
وَأعلَمُ أنْ لَيــــــــــــــــــــــــــــــسَ البُكاءُ بنافِعٍ
        عليكَ ولكنّي أُمنّي الأمانيــــــــــــــــــا
وبعد تسع سنين من وفاة الصابي (أي في سنة 393هـ)، اجتاز الرضيُّ بقبره مرّةً أخرى، فاستذكر أيّامه معه، وكتب في ذلك الموقف قصيدةً هي الثالثة في رثائه، منها قوله: 
أمضي وتعطفني إليـــــــــــــــــــــــكَ نوازعٌ 
     بتنفّسٍ كتنفّـــــــسِ العشّــــــــــــــــــاقِ
وأذودُ عن عيني الدموعَ ولو خلتْ 
     لَجرتْ عليـــــكَ بوابلٍ غيداقِ
وقد أثار هذا الوفاءُ النادرُ من الشريف الرضيّ لذكرى صديقه الذي تسامى إلى حدود العشق، شجونَ الأديب المصريّ المعروف الدكتور زكي مبارك، الذي وضع كتاباً بعنوان “عبقريّة الشريف الرضيّ” أثناء إقامته ببغداد أستاذاً بدار المعلمّين العالية في ثلاثينيّات القرن الماضي، فقال: “إنّ الشريف كتب اسم الصابي على جبهة الزمان بأصباغٍ لا تجفّفها الشمسُ ولا يمحوها هواء”. ولقد شكّلت هذه الصداقةُ عبر القرون التالية أنموذجاً فذّاً تمثَّله الكثير من المثقّفين، في العراق بالذات، الذين ارتبطوا بصلات صداقة إنسانيّة عميقة مع نظراء لهم في الخَلْق والمواطنة والميول وإن خالفوهم في الدين، فكانوا الامتداد الحضاريّ لأسلافهم، وهو ما سيكون موضوع مقالة مقبلة تكشف عن الصدى العميق الذي تركته هذه الثنائيّات، وظاهرةُ الشريف والصابي بالأخصّ، في وعي مثقّفي العراق وسلوكهم في العصر الحديث.