عنف الحركة يُشظي الأجساد

ثقافة 2020/02/08
...

علي النجار 
 
في مجال الرسم هناك فنانون تشكيليون اختاروا الجسد حقلا لتجاربهم. التجربة هنا أعتقدها تتناول الانسلاخ من جلباب مظهره الخارجي ومحاولة تشظيه أو إعادة تصورات بنائه من جديد. ربما للحفاظ على بعض من خطوط ملامحه الخارجية المعروفة كما في الاشكال الأسطورية الاثرية. أو لإلغائها لصالح حطام لا يمت إلّا قليلا للأصل. أو ربما سبرا لأحلام ذاتية بصيغة فنطازية، ولتبقى التجارب التشخيصية التشكيلية تتنافذ وتتناسل حسب اجتهادات فكرة الفنان وملامحها الأسلوبيّة
لكني اعتقدها غالبا ما تبقى ضمن صياغات شكلية تأويلية، ما دامت نتاجات ذهنية لها علاقة بظرفها الزماني الآني وحتى المكاني.
التجربة التشخيصية الحديثة في الرسم تعتمد على تحريك أو تحريف أو تداخل أو تجزئة خطوط الجسد ومن ثمة اللعب على كتلته وملمسه وملونته بما يناسب مقاصد الفنان. الفنان التشكيلي العراقي المغترب سعدي الرحّال في أعماله المتأخّرة أجاد هذه اللعبة التشخيصية وسحبها لتصوراته الاغترابية وأغراضه الفكرية التي لم تبتعد في هذه الأعمال عن نبض الشارع العراقي في انتفاضته الحالية على فساد السلطة واهدار حقوق المواطنة. في موضوعة كهذه لا بدّ أن تكون الرسوم المنفذة وسط لجّتها، موازية لعنف الفعل وتداعياته. وبما أنه اختار الجسد وحده سواء كان انسانا أو طيرا أو مسخا مجالا لإيصال رسالته
التضامنية.
فلا بدّ أن تكون هذه الأجساد هي الأخرى فعلا تحريضيا كما فوران ساحات التمرّد والاعتصام. بمعنى التجاوز على سكونيتها لصالح عنف الحركة وتشظي الجسد أو اشتباكه مع بعض الأجساد الاغترابية ليؤلف في مجملها وحدة حركية تصارع سكونيتها وفراغ محيطها وحتى تصادره أحيانا لاكتظاظها بتفاصيلها
 المتشظيّة.
رسوم سعدي هذه تجمع ما بين الحس الكرافيكي والكرافيتي في آن معا. فهي تبدو كأنّها شخبطة على الحيطان، لكن، بدون ان تلغي ملامحها التي تتخفّى خلف التعمية الخطية واللونية. وأحيانا ما تكون هذه الأجساد أكثر وضوحا من خلال ما يضفيه عليها من مسحة غلالة تعبيرية رقيقة لا تطمس الملامح تماما. هو هنا إذاً يسعى الى أن يلمح، لا يفسّر. في الوقت نفسه هو أيضا يحاول ان يؤشر الى الفعل. فالتلميح في رسومات كهذه لا بدّ أن تكون مموّهة بوسائل الفنان الإجرائية التي ينفذ بها عمله والتي يأمل منها إيصال رسالته الإنسانية بموازاة دراماتيكية الحدث.
 فهذه الرسوم بأطرافها البشرية وبقية الأجساد المتشنجة أو الفزعة على حد سواء، التي تلتف حول بعضها بعضا كما دوامة الجمهور الهادر بتفاصيل عنف كتلته المتحركة. سعدي حاول جهده في هذه الرسوم ليصل لهذا الفعل المتحرك وفضائه الملغوم تشنجا. هو يبحث عن ديناميكية الحركة لا سكون الفعل. وكتابع ومتبوع لساحة اعتصامه في لحظة انتهاكها.
ليست كلّ رسومات سعدي فعلا متفجّرا. اذ لا ينفصل في بعضها عن مشهدية رسومه السابقة في تأكيده على جماليات الرسم حيث نساؤه، أطفاله، شخوصه بشكل عام تنعم بعافيتها، بنعومة ملمسها كأنصاب، أو دمى تناور مساحتها، لا تخترقها. هو هنا ومن خلالها يرسم أحلامه الأولى التي لا تختلف كثيرا عن أحلام جيله، أو حتى الجيل الأقدم من نظرائه من التشكيليين العراقيين المولعين بملامح شخوص سبق وان عالجها الروّاد. لكن ما يحسب لسعدي، هو كون هذه الشخوص تعوم في فضاء ثقافي، وليس فولكلوريا مستحدثا. بمعنى ما، هو حاول تغريبها، لا تجذريها
في تربتها.
بذلك خلق مساحته الخاصة التي يستطيع اللعب بحرية في فضائها المحسوب بدقة. وليحافظ في الوقت نفسه على طابعها الوجداني المحلي. ليثبت أنّه ابن ذلك الجيل الأقدم والأحدث في الوقت نفسه. وما بين الاغتراب والتأصيل قبعت شخوصه المرسومة هذه بالذات في انتظار مهرجانها، أو إشكالية وجودها الملغز زمنيا والمشتبك جغرافيا والتي لا تزال تسكنها انزياحات نستولوجية.
رجوعا لرسومه الأخيرة. نجد أن سعدي لم يهمل تفاصيل ملامح منجزه السابق. لكنه حاول جهده التنصل من حالة استرخائه التي نفذ فيها تلك الأعمال وصولا لولوج منطقة دراماتيكية الفعل الصارخ والمتحرك لجمهور الانتفاضة الشعبية وساحات تحريرها. واعتقد انه وفق في أدائه الجديد الذي حاول فيه موازاة حركة الحدث الدراماتيكي، ليخلق لنا اشكالية الأجساد المتشظية بعنفها لا المسترخية بهناءة
زمنها!