محاولة بولندا المنسية لخلق يوتوبيا اشتراكية

بانوراما 2020/02/09
...

مايك أوهير  
ترجمة: مي اسماعيل 
أصبحت "نوفا هوتا-Nowa Huta" (التي كانت يوما ما المدينة الجديدة الأكثر طموحا على الإطلاق) الآن منطقة متهالكة في كراكوف؛ وهي التي كانت تُعرف "بجنة عدن الاشتراكية".
عندما حل عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية حظيت بريطانيا بمدن جديدة مثل "باسيلدون" و"هميل هامستيد" و"ملتون كينز" وغيرها؛ أما بولندا فقد حظيت بمدينة "نوفا هوتا".. ولدت تلك المدينة في ذات الحقبة التي أعطت لبريطانيا نظام التأمين الصحي الوطني ودولة الرفاه الحديث، وكان قانون المدن الجديدة لسنة 1946 برنامجا طموحا لتخطيط التجمعات السكنية، إذ خُطّط للمدن الجديدة عموما أن تكون علاجا لإكتظاظ المدن الصناعية الكبرى، ومنع نمو وتوسع لندن الى الخارج، وأخيرا (وبشكل حاسم) توفير مساكن لمن فقدوا منازلهم بعد القصف ونيران الحرب. 
وأُطلق على الفكرة اسم: التخطيط للسلام. بُنيت 27 مدينة جديدة في بريطانيا، وغيرها كثير في أوروبا حينما أعادت الدول الإعمار بعد خراب الصراع. كانت غالبية المدن الجديدة حديثة وذاتية الاكتفاء، ,والأكثر أهمية من ذلك كله أنها كانت متراصة.. لكن "نوفا هوتا" لم تكن كذلك؛ بل ذات مقياس مختلف: علامة فارقة بين المدن الجديدة، ووريثة اليوتوبيا المتوقعة (من شيوعيي أوروبا الشرقية على الأقل) لتجاوز إبادة الفاشية والرأسمالية.. لقد أُريد لها أن تكون مثالا للمدن الجديدة حول العالم.
 
مدينة الوعود الجريئة
كانت "نوفا هوتا" (وهي عمليا إحدى ضواحي مدينة كراكوف، على مسافة قصيرة (بالترام) شرق المدينة التاريخية) جنة عدن الاشتراكية التي تجسدت بالكونكريت والطابوق والحديد.. والحديد خاصة. 
يعني اسم المدينة حرفيا بالبولندية "مطحنة الصلب الجديدة" أو "المسبك"، وقد بُنيت لكي تخدم مصانع فلاديمير لينين للصلب التي كانت قيد الانشاء قريبا منها، وجرى افتتاحها سنة 1954.
يحضر بعض السياح الى كراكوف لزيارة العمارة التاريخية، ويزور آخرون الحانات القديمة؛ لكن مؤرخي الاشتراكية يجدون اهتمامهم بين الشوارع المنظمة وعمارة نوفا هوتا ذات الطبيعة الوظيفية الفخمة، متتبعين خطى الزعيم الكوبي الثوري فيدل كاسترو، الذي زار المدينة سنة 1972 ولم يأبه بالقلاع التاريخية الامبريالية؛ بل اتجه الى نوفا هوتا. يتذكر بعض المتقاعدين زيارة الزعيم الكوبي فيديل كاسترو، وكيف سار متعجبا من المباني والتصميم؛ رغم أن العديد من الأمور لم تجر بالنسبة للسكان كما وُعدوا 
بها.
كانت الوعود جريئة؛ في البدء على الاقل.. كان من المفترض أن تكون المدينة جنة للعمال؛ ليتحرروا من عبودية السوق الحرة، مما يخلق نمطًا اشتراكيا مثاليا لعمال الصلب. وكان مخططا لها أن تكون كبيرة (فهي اليوم موطن أكثر من مئتي الف نسمة)، وفخامة تحاكي لندن أو باريس، وشوارع مخططة شبكيا كما هو الحال مع نيويورك، ونموذجا (فوق كل ذلك) على "الهندسة الاجتماعية المدروسة". 
بالنسبة للعديد من الناس حققت المدينة تلك الطموحات؛ ضمنت الحكومة الوظائف، ووجد العديد من المحرومين (أما بسبب النظام البولندي شبه الاقطاعي الذي سبق الحرب العالمية الثانية أو تقصير الاحتلال النازي) بالفعل أن تلك المدينة قاربت اليوتويبيا.
 
الواقعية الاشتراكية
يقول "سيزلاف كازماريك" (51 سنة، موظف من كراكوف): "كان جدي فلاحا في الأصل، جاء الى نوفا هوتا حالما توافرت ظروف الاقامة للعمل في معمل الصلب. كان في شقته نظام تدفئة وماء جارٍ ومنظر يطل على المتنزهات، وقد أحب ذلك. انتقل مع جدتي الى هناك عندما كانا في سن العشرينيات، ولم يغادروا أبدا. وحتى عندما بدأت المباني والبُنى التحتية تتداعى كان يقول أنها ما زالت جنة مقارنة بما تركه خلفه. كانت المرة الاولى التي حصل أجدادي فيها على التعليم والرعاية الصحية المجانية والترفيه."
كانت المدينة مشروعا في الواقعية الاشتراكية؛ وهي الحركة "القسرية" التي عرّفت الفن (وبضمنه العمارة) بمنظور الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية منذ سنة 1949. كان المقصود من الحركة غرس المبادئ الاشتراكية والنظام الجديد في عقول الناس، وكانت العمارة جزءا أساسيا من تلك الستراتيجية. 
لم تكن الجماليات كافية، ورغم أن عناصر من العمارة الكلاسيكية وعصر النهضة استخدمت هنا؛ فان المباني (وخاصة العمومية والمساكن الجماعية) جرى بناؤها للتأثير على وعي الجمهور واستحضار رهبة التبعية للسلطة. وكانتنوفا هوتا مثالا مضاعفا بنحو عشرة مرات لذلك النمط. ورغم أن نظرية الواقعية الاشتراكية تلاشت في نهاية المطاف بعد وفاة الزعيم السوفييتي ستالين سنة 1953 بعدما انقلبت الاراء النقدية ضدها؛ فان مركز مدينة نوفا هوتا ما زال يعتبر نموذجا كلاسيكيا؛ فهي واحدة من مدينتين صممتا بالكامل منذ البداية بنمط الواقعية الاشتراكية، والاخرى هي "مانايتاغورسك-Magnitogorsk " وتقع اليوم في روسيا.
وصف النقاد نوفا هوتا بانها تنتمي لمنظور "جورج أورويل" (مؤلف رواية 1984. المترجمة)؛ لكنه كان حكما شديد القسوة؛ كان تصميمها براغماتيا عمليا بالتأكيد.. ومتناظرا (إذ كان ممارسو الواقعية الاشتراكية يحبون التماثل)؛ لكنها بُنيت إلى حد كبير آخذة المواطن بنظر الاعتبار. وعلى النقيض من كراكوف ذاتها (التي كانت مدينة الخيال)؛ كانت تلك عمارة وظيفية. أضف لذلك أن كراكوف نفسها كانت مرتعاً لمعارضة السلطة الشيوعية 
البولندية. 
ويمكن المجادلة أن نوفا هوتا كانت رد الحكومة الذي يستعرض أمام المدينة المُعارِضة ما يمكن تحقيقه عبر الاشتراكية.. لقد أُريد لها أن تكون العاصمة المثالية للطبقة العاملة. وسواء كان هذا حقيقة ام اسطورة؛ فمن العدالة القول أن كراكوف كانت برجوزاية ونوفا هوتا عمالية برولياترية.
 
خدمات للعمال
بدأ العمل سنة 1949 بإنشاء مجمع شقق سكنية عند شارع مرزوي، حيث حددت لوحة معدنية الموقع. وما زال مركز الحي (الذي شُيّد ما بين سنوات 1949 - 1955) يمثل مركزا للمدينة.
وبحلول سنة 1956 بات عدد السكان أكثر من مئة ألف نسمة، جاء غالبيتهم من مناطق بولندا الريفية الأكثر فقرا، وشكلوا سريعا ضمن الشقق مجتمعات مع أفراد آخرين من مناطق وخلفيات مشابهة، واستوعبوا الشعور المجتمعي الأوسع "المصمم اجتماعيا" لنوفا هوتا.أحضر الكثير أسرا من أفراد بسن العمل، وكان هناك أيضا أقارب كبار السن ممن اسهموا بتحقيق احدى تطلعات المعماريين: "وحدات الحي"؛ التجمعات المستقلة ذاتيا بوجود المتاجر والحدائق ورياض الاطفال. 
بالنسبة للكثيرين كانت تلك اولى تجاربهم الحضرية؛ المنازل المدفأة والماء الجاري والكهرباء والسيارات والشوارع وعربات الترام والدكاكين والمقاهي.. الخ.
يمضي "كازماريك" قائلا: "كان أجدادي يزرعون كل احتياجاتهم في قطعة أرض صغيرة ويأخذون الماء من الجدول، ويحرقون الحطب والفحم في كوخهم ذي الحجرة الواحدة؛ ولم يعرفوا قبلا امكانيات الكهرباء، ولم يروا عربة ترام.. فحصلوا هنا للمرة الأولى على التعليم والرعاية الصحية والترفيه..". 
تعد ساحة "بلاك سينيرني-Plac Centralny " (التي أصبح اسمها الان ساحة "رونالد ريغان" بعدما كانت سابقا ساحة جوزيف ستالين!) البؤرة المركزية للمدينة، وتتوزع حولها الضواحي بشكل المروحة؛ إذ تمتد الجادات العريضة منها باتجاهات شمال غرب وشمال وشمال شرق؛ بينما بقيت الاجزاء الجنوبية حافلة بالمروج الخضر. جاء شكل المدينة المثلث نتاجا للتصميم الاشتراكي المتمسك بالواقعية ولمحددات الجغرافيا المحلية في آن معا.
كانت تلك الساحة موقع التجمع بالمدينة؛ محاطة بالاروقة المسقفة وخلفها المباني السكنية الضخمة، ومجمع "اليجا روز-Aleja Roz" (أو شارع الورود) المركزي للتسوق الممتد شمالا. 
صمم كبير معماريي المدينة "تاديوش بتاسيكيكي" ميدانا آخر، لكنه لم يُشيّد ابدا؛ كما هو الحال في العديد من مشاريع البنى التحتية الاشتراكية الضخمة التي يوقفها غياب التمويل. 
تحولت قاعة البلدية المقترحة الى متنزه مفتوح؛ كذلك غاب المسرح المخطط انشاؤه في المنطقة ذاتها. وبدلا منها جرى سنة 1955 افتتاح مسرح آخر وبضعة دور سينما وملعب رياضي ومكتبات؛ فقد كان المقصود أن تقدم المدينة للعمال خدمات ثقافية وترفيهية أيضا.
حينما اكتمل انشاء مستشفى "زيرومسكي" عام 1954 كان هو الأحدث في بولندا؛ بعمارة متميزة ضمت سبعة عشر جناحا ودرجا فخما وواجهة مؤثرة اتبعت نمط عمارة الباروك. جرى التخطيط ايضا لخزان ماء كبير جنوب المدينة لكنه لم يُنفذ؛ وبدلا منه أُنشئ متنزه ترفيهي عند رافد تغذية المدينة المائي، وكلاهما لا يزال فعالا حتى الان. 
 
دور دفاعي مستتر
هناك قصة اخرى تكمن وراء تلك الشوارع العريضة والمتنزهات والفضاءات المفتوحة؛ فلو كان حلف الناتو سيشن هجوما على دول حلف وارشو فقد كان مخططا لتلك المدينة لعب دور دفاعي. إذ سيكون باستطاعة الدبابات الحركة بسهولة في الجادات العريضة (التي يمكنها أيضا وقف انتشار النيران بعد القصف)، وبامكان الاشجار الكثيرة امتصاص العصف النووي. 
أما الضواحي فقد صممت لتتحول الى قلاع توفر جبهات مفتوحة أمام الجنود المتمركزين داخل المباني السكنية. 
وفي المدينة عدد وافر من الملاجئ النووية، توجد غالبيتها تحت المباني السكنية؛ لكن أكبرها تقع تحت المستشفى. 
تلك مدينة تحمل المثالية والوطن الام في قلبها، لكن هل لبت الطموح المتوخى منها؟ آمن أجداد "كازماريك" بذلك؛ ولكن كالمعتاد هناك من يعارض ذلك الرأي.
يقول "جيرزي أوكولسكي" (29 سنة، الذي ولد وعاش هنا): "انها اليوم مكان سيئ، لأنها مليئة بالعاطلين والسكارى والسرّاق. لا يأتي احد الى هنا ما لم تدفعه الضرورة، ولا يتمنى القدوم إذا كان أسودا أو غجريا أو يهوديا..". اكتسبت المدينة سمعة كونها موطنا لعصابات "الرؤوس الحليقة" البولندية (الداعين للقوة البيضاء والنازية الجديدة. المترجمة)، كما قال الكاتب "الهولندي يوريس فان كاسترن" بمقاله لمعهد نيو تاون الدولي: "أصبح مثيرو الشغب والعاطلون عن العمل والمتقاعدون هم من يسكنون نوفا هوتا اليوم". وكذلك يعارضهم آخرون؛ منهم "بافل نوفاك" الذي سكن المدينة طويلا: "أعطني مدينة بولندية (أو أوروبية) تخلو من المشكلات. 
نوفا هوتا ليست الأسوأ؛ ولكن من المناسب انتقادها، خاصة أنها تجاور كراكوف الجميلة" مضيفا من باب المقارنة التهكمية. 
سواء كان امرا عادلا أم لا؛ فقد بدأت المدينة تعاني المشكلات منذ بدء سكناها؛ فقد تهاوت مجاري المياه الثقيلة مبكرا، وتعرض تجهيز الكهرباء للانقطاع المتكرر، وتوقفت المصاعد (إذا جرى نصبها أساسا)، ولم تُجهّز الهواتف وأجهزة الراديو الموعودة أبدا.. ولم يكن الموقف غالبا يليق بالمدينة الحلم.. 
انتقلت النزاعات العشائرية مع السكان المقبلين الى مدينتهم الجديدة، وعمد بعضهم (من خلفيات ريفية) الى تربية الدجاج والخنازير في الشقق؛ مما قاد الى مشكلات مع الجيران. وبنضوب التمويل ساءت حالة المدينة ولم تعد تتميز عن غيرها في بولندا.
أما دخان معامل الصلب (التي بُنيت شرقي المدينة حتى تدفع الرياح الغربية الدخان بعيدا) فلم يبتعد أحيانا عن الاجواء. يمكن القول واقعيا أن المدينة كانت ضحية نجاحها الأول؛ إذ كان عدد السكان فيها يفوق حدود التصميم، فتعطلت خطوط الخدمات المتنوعة ولم تستطع مجاراة الموقف. 
 
أمل المستقبل..؟
يقول "ستانيسو جوشنوفيتش" أحد معماريي المدينة، وهو الآن في السادسة والتسعين وما زال فخورا بتصميمه: "كان المبدأ التصميمي جيدا، لكن التنفيذ لم يكن متقنا. وغياب الصيانة اليوم ليس من أخطاء التصميم. لقد كنا محددين بالواقعية الاشتراكية؛ لكننا اردنا أن تكون حياة السكان جيدة". 
وتستذكر "باتريسيا بوركوفسكا" (71 سنة، موظفة نقل عام متقاعدة): "كانت بيننا روابط وعلاقات؛ إذ يعمل الناس معا ويقضون اجازاتهم معا. كنا نذهب للمتنزه ونلعب كرة القدم.. ارتبطت حياتنا بنوفا هوتا وكذلك حياة أطفالنا، عرفنا بعضنا بعضا واعتنينا ببعضنا وبمجتمعنا". كانت المتاجر مليئة وأعداد أعضاء الجمعيات الرياضية والثقافية كبيرة، ومطاعم العمال تقدم وجبات لآلاف العوائل. 
لا عجب إذا أن يرغب كاسترو برؤيتها قبل الذهاب الى كراكوف القديمة المملة، ويزورها "نيكيتا خروشيف" ووفود دول اشتراكية اخرى بانتظام ليطلعوا على انجازات معامل الصلب وعمالها. لكنها مع ذلك اكتسبت سمعة معاداة الحكومة الاشتراكية عموما، وباتت مسرحا لمواجهات متعددة مع الشرطة اثناء نضال حركة "التضامن" العمالية في ثمانينات القرن الماضي. فهل من أمل جديد لمدينة تجرأت أن تحلم؟ 
اليوم باتت الشوارع تحمل اسم البابا "جون بول الثاني" ونقابات عمال حركة "التضامن" الثورية"؛ وأثبتت الدلائل (لكون اسعار العقارات فيها أقل من كراكوف المجاورة) أنها وجهة مفضلة لسكن الشباب والاسر الجديدة التي تشتري مسكنها الاول؛ فهي تمتلك جميع وسائل الراحة كما أراد لها معماريو الأربعينيات والخمسينيات، ووفرة من المناطق الخضراء. افتتح هناك عدد من الشركات الجديدة؛ وبضمنها مصانع كبيرة للتبغ والسمنت وشركات البرمجيات، كما انطلقت السياحة ونمت؛ بوجود اشخاص يرغبون بالاطلاع على ماضي بولندا الشيوعي. 
 
صحيفة الاندبندنت البريطانية