التخصص المعرفي وتحولات العصر

ثقافة 2020/02/10
...

نصير فليح
 
ثمة معلومات عامة يتم تداولها كثيراً في الأوساط الثقافية والأكاديمية عندنا، كأنها أمر مسلم به، وهي في الواقع تغفل حقائق مهمة وتطورات مهمة مما جرى ويجري في زمننا المعاصر. والموضوع الذي نعنيه في هذه المقالة هو موضوع "التخصص" في الحقول المعرفية، ولا سيّما في مجال العلوم الاجتماعية Social Sciences والانسانيات Humanities. 
تداخل الحقول المعرفية:
واحدة من السمات الرئيسية التي يمكن ملاحظتها في فكر أبرز المفكرين والمنظرين المعاصرين هي تعامل جديد مع موضوع التخصص، وعدم اعتباره بالقطعية التي شاعت على امتداد زمن طويل من القرن التاسع عشر والقرن العشرين لا سيّما في مجال العلوم الاجتماعية و الإنسانيات. وكثير من الأعمال الفكرية التي يقدمها هؤلاء المفكرين تدخل في نطاق ما يعرف بـ (الحقول المتداخلة التخصص) inter-disciplinary، وهو ما يثير بالطبع توترا وسجالا مع المتمسكين بالنظرة التقليدية المتعارفة للتخصص، هذه النظرة التي ترسخت بفعل قرون من الممارسة الأكاديمية والبحثية. ونذكر من أبرز مفكري العصر ممن يبرز في عملهم تخطي الحدود البحثية المتعارفة سلافوي جيجك، جوديث بتلر، دونا هاراوي، هومي بابا، غاياتري سبايفاك، فريدريك جيمسن، جورجو أغامبن، برونو لاتور، وغيرهم.
 
منعطف التخصصية المعاصر:
إذا كان القرن التاسع عشر وبداياته وما سبقه وأعقبه هو الحقبة الأكثر ترسيخا لمفهوم "التخصص" و"التخصصية" عن طريق تحديد موضوعات الحقول البحثية المختلفة والمناهج الملائمة لها، فيبدو اننا اليوم على اعتاب منعطف معرفي تأريخي مختلف، لا يلغي التخصص والتخصصية، ولكنه لا يتعامل معها بالقطعية والصرامة التي درجت عليها الحال في المؤسسات المعرفية في القرنين الأخيرين من الزمان. وهذا أمر طبيعي كما يبدو، فإذا كان التأريخ يعيد نفسه بأشكال جديدة، فهذا ما ينطبق على تطورات المعرفة كذلك، التي تعيد انتاج الحالة والحالة النقيضة بتطورات مستمرة تعيد صيغها مع امتداد الزمان. وليس من داع، لمن ينظر للموضوع نظرة شاملة وعميقة ومسلحة بمعرفة قوية، ان يعتبر صيغة التخصصية التي ترسخت في القرنين الاخيرين حالة نهائية في مسار المعرفة.
 
رؤية جديدة:
يقول المفكر العالمي الشهير (هومي بابا) Homi Bhabha رداً على سؤال تم توجيهه اليه بخصوص تداخل الحقول البحثية في عصرنا إن المسالة "ليست محاولة تعزيز أساس لأحد الحقول على حساب حقل آخر، المسألة هي رد الفعل أزاء عيشنا على الحافة الحقيقية لحقولنا البحثية المعرفية، حيث اهتزت بعمق بعض أسس هذه الحقول. ولهذا فإن لحظة التداخل التخصصي التي نمر بها هي حركة نحو القدرة على البقاء، صياغة معارف تتطلب البحوث والتقنيات التخصصية، ولكنها تحتاج الى التخلي عن السيطرة والمراقبة التخصصية".وعلى أساس هذا الرأي، فإن الحاجة الى تخطي الحدود المتعارفة للتخصصات لا تظهر في تلك المناطق الوسطية التي يتداخل فيها أكثر من حقل فحسب، بل اننا أصلاً "نعيش على الحافة الحقيقية لحقولنا المعرفية"، ذلك ان أسس هذه الحقول نفسها اهتزت، وبالتالي تظهر الحاجة الى تخطي التحديدات المتعارفة للحقول كمطلب ضروري لقدرتها على البقاء، مع ان صياغة المعارف تتطلب البحوث والتقنيات التخصصية. 
 
التخصصية وواقعنا المعرفي:
كما هي الحال مع الكثير من الجوانب المعرفية والثقافية والفكرية، فإن الموضوعات التي يدور حولها سجال عالمي كثيراً ما تأخذ في ظل ثقافتنا العربية المتدهورة وواقعنا الثقافي الهزيل شكلاً أشبه بالكاريكاتوري. "فالمتخصصون" لدينا كثيراً ما يبالغون في موضوع التخصص بمناسبة أو من دون مناسبة، وكأن الموضوع محصور بهم قطعاً، وكأن التخصص "قطعة أرض" تم تسييجها وكُتب عليها "يمنع الدخول لغير المتخصصين"! هذا التصور بالطبع يغفل عن التطورات الجارية عالمياً في الموضوع ويتكئ على معلومات قديمة بدأت أسسها تهتز من الجذور، هذا من جهة، ويتغافل من جهة أخرى عن أن مستوى أكاديمياتنا أصلاً وتخصصاتها ومتخصصينا غالباً ما يكون هزيلاً الى درجة لا تسوغ هذا الاعتداد المبالغ فيه. لكن بالطبع لهذا الميل الى التأكيد والمبالغة في "التخصص" أسباب اجتماعية وشخصية، تتعلق بترسيخ المكانة المعرفية والاجتماعية في وسط ثقافي ومعرفي هزيل المعرفة والثقافة بوجه عام.
 
بعيداً عن سوء الفهم:
ما ذكرناه هنا لا يعني ان "التخصص" و"التخصصية" أمور عفا عليه الزمان واصبحت من الماضي، ولا يعني ان يأتي كل من هب ودب ممن لا يعرف شيئا ليدلو بدلوه في مواضيع لا فكرة لديه عنها، ولكنه يعني ان الموضوع ملتبس بأوهام ودوافع كثيرة لا تعي ما يجري على المستوى العالمي المعرفي، وان مستوى أكاديمياتنا وثقافتنا يتطلب فوق ذلك المزيد من التواضع نظرا لتواضعها وهزالها. فضلا عن اننا نعيش في واقع يصل فيه مستوى بعض "المتخصصين" الى درجة الجهل بأبسط مبادئ تخصصهم نفسه (فضلا عن تطوراته طبعا، هذا إذا لم نذكر قلة المعلومات أو حتى سوء القراءة والكتابة نفسها أحيانا!)، وذلك للسهولة العجيبة الغريبة التي تُمنح بها الشهادات العليا، كما هو معروف. إن وهم "التخصصية" المسطح هذا، في سياق واقعنا الثقافي الملموس، يرتبط بجملة مسائل وثيقة الصلة مما تناولناه في مقالات سابقة، مثل وقائع وحقائق وأرقام تدهورنا المعرفي والثقافي كعرب عموما، وموضوع "العلمية" و"العلموية"، والمعلومات القديمة الشائعة التي تعود الى عقود مضت من الزمان وما زالت في دائرة التداول والتكرار دون دراية بما جرى ويجري في العالم بهذا 
الشأن.