- 1 -
في حوار جرى بين أبي هفان (عبد الله بن أحمد المهزمي العبدي) وبين (دُرّ) وهي سيدة تعجبت من الشيب الذي غزاه، ومن ثيابه الرثة فقال :
تعجبتْ (درُّ) من شَيبْيَ فقلتُ لها :
لا تعجبي فطلوعُ الفجر في السدفِ
وزادها عجباً أنْ رحتُ في سمل
وما درتْ (دُرُّ) أنَّ الُدرَّ في الصدفِ
ألا تراه كيف شبه الشيب بالفجر الذي يبدد العتمة (وهي هنا سواد شعر)
أما الثياب الرثة فهي بمثابة الصَدَف الذي يحتضن الدُرّ في جوفه!
ولا يخلو هذا الأسلوب من
طرافة .
- 2 -
وهذا الشاعر نفسه يقول حين باع ثيابه :
لعمري لئن بَيّعتُ في دار غُربةٍ
ثيابي لمّا أعوزتني المآكِلُ
فما أنا إلّا السيف يأكل جفنَهُ
له حلية مِنْ نفسِهِ وهو عاطِلُ
لقد باع ثيابه ليشتري ما
يأكل .
فهو، إذاً، كالسيف الذي يأكل جفنه، ولا يعاب ذلك على السيف الذي جمّل نفسه بنفسه!
- 3 -
وقال علي بن الجهم:
لا يُؤيسنّك من تَفرُّجِ كُربةٍ
خَطْبٌ رماكَ به الزمانُ الأنكدُ
واصبر فإنّ الصبر يُعقب راحةً
في اليوم يأتي أو يجيء به الغدُ
كم من عليلٍ قد تخطّاه الردى
فنجا ومات طبيبهُ والعُوّدُ
قد تشتد العلة بالمريض ولكنّ الموت يتخطاه ويُسرع الى طبيبه المعالِج والى بعض من عاده في
مرضه!
وهكذا هو حال المكروب فإنّ الغمّ والهم يزولان عنه إذا ادّرع الصبّر .
فالصابر هو بمثابة العليل الذي نجا من الموت، في الوقت الذي لم ينجُ منه آخرون لم يكونوا من ذوي الشكوى وبمثل هذه المقاربات والمقارنات يتمنطق بعض الشعراء .
- 4 -
قال أحد الشعراء
إذا ما غدت طلابة العلمِ ما لها
مِنَ العِلْمِ الاّ ما يُخلّدُ في الكُتبِ
غدوتُ بتشهيرٍ وجدٍّ عليهمُ
ومحْبَرتي سمعي ودفترها قلبي
طلاب العلم يعكفون على دراسة الكتب وما ضمته من نظرات ونظريات
والشاعر هنا يفخر بأنْ يكون سمعه محبرتَه وقلبُه الدفتر الذي يدّون العلوم وبهذا تميّز على سائر طلاب العلوم.
- 5 -
قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر
جَسَّ الطبيبُ يدي يوماً فقلتُ له
إن المحبة في قلبي فَخَلِّ يدي
ليس اصفراري لحُمَىّ خالطت جسدي
لكنْ لطارقِ هّمٍ حلَّ في كبدي
لقد عزا الشاعر اصفرار لونه الى معاناة كبده وليس الى حمىً
اصابَتْهُ.
ومعاناة الكبد تعني الإشارة الى الهموم والأعباء التي ينوء بها الشاعر وقد عبّر بالبيتين المذكورين عن معاناته أجمل تعبير، وصوّر معاناته أروع تصوير .
- 6 -
ورثى صالح بن عبد القدوس عينه فقال :
عزاءَكِ أيّها العين السكوبُ
وصبرك انّها نُوَبٌ تنوبُ
وكنتِ كريمتي وسراج وجهي
وكانت لي بكِ الدنيا تطيبُ
فانْ أكُ قد ثكلتُكِ في حياتي
وفارقني بكِ الإلفُ الحبيبُ
فكلُّ قرينةٍ لا بُدَّ يوماً
ستشعبُ إلفَها عنها شعوبُ
على الدنيا السلام فما لشيخٍ
ضرير العين في الدنيا نصيبُ
يموت المرء وهو يُعدّ حياً
ويخلف ظنَّه الأملُ الكذوبُ
يُمنيني الطبيبُ شفاءَ عيني
وما غيرُ الإلهِ لها طبيبُ
اذا ما مات بعضك فابكِ بعضاً
فإنَّ البعض مِنْ بعضٍ قريبُ
أرايت كيف عبرّ عن العين بانّها (سراجُ الوجه )، وهو تعبير يقطر بلاغة.
وهو يرى أن فقدان العين يساوق الحرمان من كلّ متع الدنيا.
وهو بذلك يعرب عن عمق
آلامه .
وانطفاء آماله الدنيوية
كلها .
- 7 -
وعبّر خالد بن زيد الجهضمي عن مرارته من الصمم في أذنه، فهو يجالس الأصحاب وهم يخوضون في شتى الأحاديث ولكنه لا يشاركهم لا في تعليقٍ ولا في بيان، لأنه لا يسمع ما يقولون، وليس عن وعيّ وجهل، ويتضرع الى البارئ عز وجل ليفتح له سمعه
المسدود.
قال :
كفى حَزَنَاً أني أجالسُ معشراً
يخوضون في بعض الحديث وأُمسكُ
وما ذاك من عيٍّ ولا من جهالهُ
ولكنه ما فيّ للصوت مسلكُ
فإن سُدَّ مني السمع فالله قادر
على فتحه والله بالعبد أَمْلَكُ
ومنْ يستطيع انكار ما يتمتع به الشعراء من قدرات فنية في التصوير والتعبير؟