ياسين النصير
يطرح مفهوم الكون اللغوي اشكالية التعميم من أنه كون بلغة كونية، وبالتالي لا يمكننا تصور أي مقاربة من هذه الكونية عبر اللغات المحلية، إلّا في حالة ان احتوت هذه اللغات المحلية على كونية التصور. الأمر ليس صعبا أن تكون لغتنا العربية كونية. قديما، ومن خلال قواميسها حاولت أن تكون كونية، ومفهوم أو مصطلح "اللسان" الذي تعامل معه ابن منظور في تأليف قاموسه الكبير "لسان العرب" إحدى المحاولات لكونية جعل اللغة العربية كونية، ولكن القاموس بقي ضمن حدود التعريفات اللغوية للكلمات،
وتناسى المعنيون باللسان أهمية عنوانه "لسان العرب" الذي يقارب طروحاته اللسان عند سوسير، ولكن لا أحد من اللسانيين العرب وغيرهم، بحث عمّا تحت اللسان العربي من انزياحات كبيرة للغة، لتصبح كلاما يمكنه أن يكون عالميًا، ويسجل أسبقية ابن منظور على سوسير، مع أن سوسير يهتم أساسا باللغة.
الآن، بدأت فكرة "الكون اللغوي" راسية على الأرض، بعد أن حلق المفهوم في أشرعة اللسان.
الآن، ينزل الكون اللغوي للشارع والأمكنة الشعبية، ومنها الممرات والمماشي وحواف المدن، والمنازل والطرقات العامة المشبعة بالضوء والظلمة. هذه الممارسة اللغوية لكونية التصور منطلقة من العلوم اللسانية والاجتماعية التي دمجت بين مصادر اللغة وميادين اشتغالها المعرفي.
يتحدث فالتر بنيامين عن كونية اللغة، ويحدده "إنّه الخاص بالمتروبول (الشارع وإشارات المرور، أسماء الأماكن والمنشآت، اللوحات الإعلانية والإعلانات)، ويضيف إليها ما اشتغل عليه في كتابة "ممرات باريس المسقوفة - الشارع ذو الاتجاه الواحد" بتشكيلة انتقائية وعجيبة من الحكم والصور الحلمية والنكت والشذرات الأخرى، "لا شيء سوى الأعشاب المُرّة". ص155 فالتر
بنيامين.
فلا نستغرب أن تكون كونية اللغة هي الكلام الذي ينشأ من الممارسة الإنسانية مع الأمكنة. وهذا ما اشتغل عليه بارت وفوكو وغاستون باشلار وغيرهم.
لن تبتعد الايديولوجيا عن الكونية اللغوية، فالبرجوازية ليس من مصلحتها أن يتكلم عامة الناس الذين يشغلون الشارع والمقاهي والطرقات الجانبية والأرصفة والمماشي الترابية في القرى والأرياف والبلدات في الأمور السياسية ومن ثم يوجهون لها نقدًا، فاللغة المحكية أداة للتغيير، وقد تكون حساسيتها العالية بتشخيص المشكلات حاسية المعادلات العلمية، لأن الوعي العلمي يكون رديف اللسان الشعبي عندما لا يجد إنسان الحياة العادية مجالًا لتحقيق مطالبه إلّا اللغة التي تستمد مفرداتها من كونية الحياة اليومية بما تحتويه هذه الكونية من انزياحات اللغة عبر النكات والمفارقات والبذاءة والشمولية.
في حين تؤيد الايديولوجيات الماركسية والتحررية هذا المنحى اللغوي وتعده من انجازات الوعي الاجتماعي عندما تفرض الحاجة على الإنسان أن يكون لسانه عنيفا وواضحا ومطلبيا وقاسيا في اختيار اللفظ المناسب للتعبير واحيانا يواجه جراء هذا اللسان الكوني العقاب وربما القتل، كما يحدث في شارعنا العراقي.
هذه اللغة الكونية ليست وليدة رغبات آنية، بل هي نتاج معرفي لتجارب مريرة من الحرمان، ولدت في خضم مخاض اجتماعي عسير سيوّلد في المستقبل صورا جديدة لمعنى أن يكون الشارع هو الميدان العملي لصياغة لغة كونية مباشرة ليس فيها ذلك النحو والصرف والبلاغة القديمة، بل كل محتوياتها أن تكون صوتا لجماعات مقهورة ومعزولة مورست عليها ضغوط سلطوية موشاة بعنف وكاريزما دينية وسلطات قامعة لها حضور في مخيمات لغة العنف.
ميزة اللغة الكونية أنها ليست قاموسية بل هي لغة راهنية تولد في الشارع والساحات، وتنتجها ألسن مختلفة الإنتماءات، ولا تحتاج إلى مدارس تعلمها كي تدخلها في دروس الإنشاء والتربية. في العراق لدينا أرضية تاريخية للغة الكونية التي ولدتها مظاهرات الشعب منذ أربعينيات القرن الماضي وصولا لساحة التحرير اليوم.
متى تظهر هذه اللغة؟ المتابعون يجدون أن كل ما تعرضت البلاد لمشكل كوني كالحروب ظهرت هذه اللغة المدفونة في اللسان الجمعي للناس، ومن عاش الحرب العبثية التي خلقتها إيران مع العراق لوجد أن اللسان الشعبي هو سيد الإعلام ومادته اليومية حتى وصل إلى النكتة الفاحشة والصور الجنسية كي يغطي ما لم تستطع الحرب حسمه. حياتنا اليومية شكل من أشكال الزمان والمكان الشعبيين اللذين نمارس فيهما وجودا مضطربا لا يمكن قياسه بأية لغة علمية. هنا، ومن داخل هذه اليومية المضطربة، ثمة ما يقوله لساننا الكوني ليعبر عن معاناة محلية بصغية إنسانية شاملة بحيث يتعاطف معك من مرَّ بمثل ما مررت به من تجارب، ولذلك تخلق اللغة الكونية تضامنا انسانيا وتجد شعوبا عديدة تشترك في معاناتك. ومتى ما كانت لغتنا كونية كنا أقرب لتفهم العالم لما
نعانيه.