كميلة

ثقافة 2020/02/12
...

علي حداد
 
   
                                                                                               
كميلة امراة جميلة تبهر العيون .. شقراء حمراء.. بعباءة سوداء نظيفة كانت حين تمشي في بغداد محلة أبو سيفين تقوم الدنيا ولاتقعد .. جسدها يتكلّم .. مشيتها تحكي وكذلك شعرها يؤشر ويومئ وهو لايتوقف عن ذلك .. وشفتاها لاتنفكان وهما تحكيان قصصا ورديّة جميلة.. كميلة وحين تتحدث اليك بشفتين راقصتين تنسى نفسك وتصير مثل أثول مثبور .. تتيه بين حركة شفتيها ومعنى الكلمات ونغمات صوتها الحلوة كأنما يُخيّل اليك أنّها تغني ..او تغرّد .. كميلة لاتفتعل ذلك .. كميلة هكذا خلقها الله سبحانه وتعالى.. مشيتها ضحكتها.. حركة يديها وشفتيها .. والتفاتاتها .. وحين تتوقف في السوق.. كأنما تتوقف الحياة.. هي لاتقلّد المغنية أحلام وهبي ولاهند رستم ولا مارلين مونرو  .. هي ولدت هكذا .. تمشي هكذا .. وتضحك هكذا ..  وتتحدث هكذا  .. وتلبس هكذا لاعلاقة لها بأزياء شانيل .. أو بيار كاردان .. كميلة بعينيها السوداوين بلون الفحم.. وشعرها الاشقر بلون الذهب ووجهها المضيء مثل ليلة مضيئة 
بقمر .. كانت مشرقة تسر الناظرين .. 
تشرق من جسدها إشراقات لايعرفها أهالي محلة أبو سيفين أبدا .. ولا نحن الصبية 
الذين لانرفض لها طلبا حتى لو كان في عكة أو مكة.. وكنا نطلق عليها “الشكرة”، ونساء 
أبو سيفين كن يستشطن غضبا منها، وأمي حين كانت تتشاجر مع أبي كانت تولول  
قائلة:
- «عينك علشكرة أبو كرون»
وكنت أسمع صديقات أمي وهن يتقولن عليها
- «هاي الشكرة عوع تلعب ألف نفس ..جامدة عبالك لعابة بلاستك، «ذلك أنّهن كن يفشلن في كل مرة أن يقلدن شيئا مما حباها الله عزه وجل .. كميلة تزوّجت من عادل بن الحجي وكان رجلا ثرثارا .. لايحبه أحد لثرثرته وتعاطيه للغو في الكلام .. رجل لايعرف ان يسكت.. وهو حين يتحدث لايعطيك فسحة لمقاطعته .. ولبخله كان يحاسبها على الفلس .. وكان يضع لها منظف الملابس في قدح صغير .. ويضع لها صابونة واحدة .. ويعد عليها ألبستها الداخلية.. ومتى تبلى وتستبدل وكمية الحليب الذي تشربه .. وكيفية استهلاكه.. ويعد عليها ملاعق الرز .. عليها وعلى أطفالها الثلاثة .. وقد وضع قفلا على ثلاجته لايفتحه الا حينما يعود من عمله “كصباغ للبيوت” يعد عليهم البرتقالة والتفاحة وحبّات العنب .. ومدى استهلاكها للدهن الذي وضعه في استكان الشاي ..
لم يكن ينظر الى كميلة وإنحناءات جسدها وإلتواءاته ولوعته وتكوراته .. وجمال حديثها وضحكتها ومشيتها في البيت .. ابن كميلة كان يتمتع كل ليلة بعد دنانيره.. وهو مبتهج سعيد .. فلا علاقة لإبن الحجي بجسدها ونعومته ونضجه وفتوته واستجابته.. الدينار أحلى عنده من أفخاذها .. والدرهم أجمل من ثدييها .. والفلس أجمل من عذوبة شفتيها ..
وفي تموز من العام 1967 .. جاءت الى محل والدي لتشتري “طرمبة” حنفية ماء.. حينها رأت فلاح أبو سمرة .. كان رجلا طويل القامة عيناه ايضا بلون الفحم .. مكحلتان منذ الولادة .. وبأسنان بيض تلمع مثل لؤلؤ ساطع.. وسيكارة  “الروثمن كانت تستقر بين اصبعيه” وكان قليل الكلام إن لم يكن ممتنعا عنه .. لم أره إلّا والسيكارة في يده اليمنى ..يدخن بنشوة .. وكأنّها فقط من تستطيع إدراكه.
أنا كنت الشاهد الوحيد في لقاء كميلة بفلاح أبو سمرة .. لم أكن أفهم في الدين ومعنى الحجيج الى بيت الله الحرام .. كنت أفهم ماكنت أتلقاه في مدرستي “بسم الله الرحمن الرحيم  قل هو الله احد .... بعد أعوام فهمت كل ذلك.. فهمت معنى ان تكون كميلة حجية وأم لثلاثة أولاد .. ومعنى الحب والعشق .. والبخل وكل هذه المفاهيم .. كنت أشاهد عشقهما.. وأسمع همساتهما .. وكنت قد كبرت حين سمعته يقول لها بحزن وأسى كانا يتطافران من عينيه المكحلتين وقد أطفأ سيكارته بغضب بأنّ عليه وهو يسحقها بكعب حذائه الاسود الانيق 
 - يجب ان نفترق  .. كميلة لأني نويت ان أحج  .. ولا يجوز ..
بكت من فورها وهي تصارع كلماتها
لم يجبها بشيء .. ذهب يدخن كانت مسكته لسيكارة الروثمن رائعة .. وكميلة كانت أمامه تتبعثر مثل دخانه الذي ما يلبث أن  يختفي كما اختفى هو عن الانظار..
ظلت تسأل عنه بعناد وكانت تأتي الى أبي ولاتمل من السؤال عن أبو سمرة 
- إسمعي كميلة .. أنا لم أكن صديقه بالمعنى الصحيح كان شقيقه  “صباح  الخبل” صديقي فعلا، لكن ذات يوم ممطر قالت زوجتي وهي مذعورة 
-  من يطرق الباب علينا في هذه الساعة؟
وكانت الظلمة شديدة حتى انني لم استطع رؤية كفي وتفاجأة بفلاح ابو سمرة  وهو يومئ لي بإشارة من رأسه مع ابتسامة صغيرة .. كان مبللا يقطر الماء من شعره وملابسه وقد تبللت سيكارته ايضا
-  دعنا ندخّن 
-  نعم ؟؟
-  ذهبت معه الى مقهى ابو اسماعيل ودخّنا سوية ثلاث سكائر ثم ذهب كل منا الى بيته، هذا كل مافي الامر، يا حجية أقسم بالله وهكذا صار يأتي للجلوس في دكاني يشرب الشاي أو القهوة ثمّ يغادرني دون ان ينبس ببنت شفة 
- ألم يتحدث لك بشيء عنّي؟
- لا أبدا .. بل لم يتحدث بالمرة ... وحتى عندما كانت السماء تمطر  ويدق الباب على  و.. وهكذا نذهب الى المقهى وندخن لم يكن يتحدث لاعنك ولا عن غيرك ابو سمرة
قاطعته بلهفة كمن تستجير
-  معقولة .. ولا كلمة ؟؟
كان أبي قد نهض من وراء منضدته .. كأنما خشي أن ينقل خبر هذا اللقاء الى أمي
-  أقسم لك بكل حرف “بالقرعان”.
 ثم سمعنا أنه ذهب الى بنجوين في شمال العراق كضابط شرطة .. كما سمعنا أن كميلة ذهبت الى هناك .. كانت تريد ان تعرف عنه كل شيء .. عن صمته .. وشروده الطويل.. وتدخينه .. لعلبه السبع من سكائر الروثمن .. وأخيرا عثرت على صديقه المختار كاكة توفيق .. وكان رجلا طاعنا في السن يبلغ التسعين من عمره استخدم العكازة الاولى وهو في السابعة والسبعين من عمره وبعد ثلاثة عشر عاما استعان بعكازته الثانية.. محدودب الظهر وبوجه مريح وكان حين يمشي يبدو كحيوان من الزواحف المنقرضة وكان يتحدث بصعوبة بالغة 
-  كاكة كميلة كاكة فلاح  “خوش آدمية بس دنيا مطر دك باب علينه 
كاكه توفيق تعال دخن .. تلات جكارات روثمن .. مطر آني رجال جبير كاكة كميلة 
عادت الى بغداد منهكة متعبة .. رأت الثلاجة المقفلة واستكان الشاي المملوء بغسيل الملابس .. وقدح السكر والملح  “وأشياف” البرتقال المقسّمة لها ولأولادها..
وحين دخلت الى غرفة نومها وجدته يعدّ دنانيره فرحا وهو يتساءل
-  أين كنت؟
-  في الحمام 
ذات شتاء .. وفي يوم الخميس .. الذي كان ممطرا دق جرس الباب بعنف وسألها مذعورا وهو ينظر الى المطر وهو يضرب على النوافذ والحيطان 
-  كميلة من يطرق علينا الباب في هذه الساعة ؟
تمنت أن يكون أبو سمرة .. وهو يطلب منها ان  تدخن معه سجائره الروثمن الثلاث.